الأفق انسد والآمال تلاشت وفي التشييع صفحة جديدة فتحت

الخرطوم: شوقي عبد العظيم
كأنها أزفت، والإسلاميون يتلفتون يمنة ويسرى، والكل يحدق في وجه أخيه عسى يظفر بإجابة، ولكن لا شيء سوى الحيرة والانشداه، وحسن الترابي محمول على نعش، والبكاء والعويل لا حد له، الدموع مدرارة، والآهات حرى، النهاية والخاتمة والفقد، عبارة باتت لها مدلول ومعنى، احتشدوا خفافا إلى مقابر بري، وبعد أن أهالوا على الشيخ التراب، شق عليهم أن يغادروا، الأفق سد، والآمال تلاشت إلى غير رجعة، هو الذي كان يتحامون به عند الدلاهم العظام، ومن يرسم لهم الطريق منه وإليه، ساعات والناس تنتظر أن ينفضوا من حول القبر ولم يفعلوا..
أمس كان يوم تشييع الترابي، كان يوم يتم الإسلاميين.. الإسلاميون من هنا وهناك، الذين ناصروه وانشقوا معه، والذين أداروا له ظهورهم.
يوم رحيل القائد
في الصحافة والشارع وبين الناس، قالوا: من سيخلف الشيخ؟ في مثل هذه الحالات ? يوم رحيل القائد – يكون السؤال جوهريا ويتحرى إجابة، أولى المفارقات أنه في يوم أمس عند التشييع، وليلة رحيل الشيخ لم يكن كذلك، لم يكن جوهريا ولا يتوخى إجابة، من يخلف الشيخ كان في ذيل القائمة، ولا ينفي أننا تطارحناه ولكن عندما تكر المسبحة وتستعرض الأسماء والشخوص، تزهد وربما لا تجد معنى للإجابة، وستنتقل فورا إلى المصير الكبير، مصير بدايات لم تهنأ بالنهايات وإن قاربتها وإن شارفتها، والمشروع الكبير – أن نزع بالسلطان ? أجهضته مقاليد السلطان، والأحلام بددتها الشهوات، والحناجر التي تردد “لا لدنيا قد عملنا” كانت قلوبها محشوة بها إلى حد الثمالة.. والله وحده يعلم.
2
“أين كنتم يومها”
لولا المقام كدت أسألهم: على ما تبكون؟ والحق.. كانوا يبكون بحرقة ووجوههم النضرة عليها مسحة حزن، بعضهم نعرفهم بأسمائهم وبعضهم بسيماهم، إسلاميو المؤتمر الوطني غالبهم في زي العمل.. حال ما يفرغ الناس من ستر الجثمان يهرعون إلى دواوين الخدمة، أو إلى أعمالهم الخاصة.. نعم على ما تبكون؟ وفاء لتاريخكم مع الشيخ؟ حبا له؟، أين كنتم يومها، بل أين كنتم في السنوات الماضية؟، المفارقة المدهشة أن الراحل -وهو بين يدي قادر قدير- وبعد أن تشاحن الشعبي والمعارضة وفي جلسة صغيرة قال: “ما وجدناه من الوطني وهم إخوة لنا لم يجده أحد من هؤلاء، أنا حبسوني أكثر من أي معارض”.
3
“المزالق لا حد لها”
الأيتام الصغار، شباب المؤتمر الشعبي، بكاؤهم كان يفطر القلوب، الفوانيس تنطفئ وهم في خضم اللجة، فتح عقولهم على الأفق الكبير، قال لهم إن الله واحد، وإن الأصل واحد، وإنها خلافة وإعمار، وإن أرض الله واسعة، وإن العقل هو البداية والنهاية والمصير، حدثهم: “إن هذا القرآن محفوظ لتتدبروا، لا لتتحجروا، وإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، افعلوا وسعكم، وإن فيكم ابن كثير والطبري، ومالك، إلا فكيف يكون الدين محفوظا؟”. ولكن الفانوس انطفأ، والعثرات كثر والمزالق لا حد لها، وللخير تسعة وتسعون بابا ولكنها قد تنتهي إلى داعش أو إلى جحد كل شيء.
4
العراب.. راعي العشرية
ما لا يمكن تجاهله، وقع خبر رحيل الترابي على الشارع، وفي مواقع التواصل، وبالذات الذين فتحوا سيرته من يوم: “سأذهب إلى السجن حبيسا”، أو من عادوا إلى يوم المصالحة الوطنية والعدالة الناجزة، واجتروا وقائع الصالح العام وليالي الجهاد وعرس الشهيد، وبن لادن والمؤتمر الإسلامي الشعبي، هؤلاء قالوا إنه العراب، وراعي العشرية الأولى وعبارات من هذه الشاكلة. من قارعوهم قالوا إن الشيخ كان يعمل بينما الآخرون ينتظرون، وأشاروا إلى أن ما جرى لم يكن ما أراده الشيخ الراحل، ولم يكن ما يخطط له، وإن الطريق حاد، ومؤكد أن الأضابير تحتفظ بسيرة أخرى وحقائق بلقاء، لا يملكها هؤلاء وإن كان لهم بعض منها ولا يملكها أولئك وإن ظنوا أنهم يحملون مفاتيحها، والانبهام في حد ذاته نتيجة خطأ في المشهد الكبير، ولكن بين هؤلاء المتجادلين رمى أحدهم بسؤال: هل اعتذر الترابي عن شيء مما جرى؟ السؤال يبدو عاديا لا ينبئ بشيء، غير أن الإجابة عنه لها ألف معنى.
5
آلام الشيخ
هل اعتذر الترابي؟ إن كنا نبحث عن الإجابات السهلة، أو المستنبطة من الوقائع “نعم فعل”، خرج وانتقد وأعلن أن المسيرة حادت عن المقاصد، دفع ثمن ذلك حبسا وتنكيلا وتشريد، غير أنك ستجد من يستخفك ويقول: “صراع سلطة”، ومن يمسك بتلابيبك ويقول لك: هل فعلا يؤمن بالديمقراطية والحرية؟ ولماذا سكت عن هذا وذاك، ولماذا عاد وصفح وحاور؟.. غير أن العالمين ببواطن الأمور يعلمون أن الشيخ عاد من التجربة بالكثير، وأن الأرض تحته لم تكن دائما ثابتة، والطريق لم يكن ممهدا حتى داخل حزبه الحاكم وقتها، وأن مصالح الرجال وشهواتهم، وأيضا من تتحدث إليهم من المقربين من الراحل، يكلمونك عن كثير من آلام الشيخ وندمه على كثير مما جرى، ووقتها والشيخ بين الناس كان الحديث صلدا ومتماسكا ومقنعا إلى الحد البعيد ولكن ماذا بعد أن رحل؟.
6
“لو بسطوا لكان خيرا كثيرا”
في السنة الأخيرة والتي قبلها حجب الشيخ عن الناس، بات مقلا في ندواته الجماهيرية، وفي محاضراته العامة وفي مقابلة الصحافة، وكان معلوما للصحافيين أن ذلك لصالح إنجاح الحوار، أو أن الذين وقفوا بينه وبين الناس ألمحوا لذلك، وظني أنهم لو بسطوا الأمر موقنين بالمقادير، لكان خيرا كثيرا، ولعل أحاديثه في الجلسات المغلقة وللخاصة وخاصة الخاصة كانت ستكون أفيد لو تداولها عامة الناس ولفضت كثيرا من الإبهام، وأظنهم في مقبل الأيام سيفعلون ويقولون إن الترابي كان يرى ويرى، ولكنها ستكون أقوالا ممزوجة بعاطفة لرجل فارق الدنيا.
7
الجلوس على الطاولة غنيمة”
المشاريع التي لم تنته في هذا البلد كثيرة، والخيبات التي لازمت كل بارقة لا حصر لها، والراحل قال إنه يريد أن يطمئن على السودان قبل أن يرحل، ومؤكد أنه لم يفعل، ومشروع الحوار الذي أراد له أن يكون صفحة جديدة في مسيرة السياسة في السودان، أمسى ماسخا للحد البعيد، وأصبح بين ضحية وعشاها، حوار أحزاب حكومة الوحدة الوطنية مع المؤتمر الوطني بإمتياز، وفي آخر ليلة تحدث فيها الترابي مع أعضاء حزبه في جلسة خاصة، الأسبوع الماضي، قال لهم: لا أحد يتخلى عن السلطة، وإنه عندما حاور لم يتوقع أن يتخلى الوطني عن السلطة، وأشار إلى أن الجلوس على الطاولة في حد ذاته غنيمة، وأن القيادة العليا في الدولة أكدت أنها ستراعي مطالبه، وكشف عن أنه عندما قابل القيادات في الحزب الحاكم قال لهم نحن معكم إلا من اثنين “السلطة المطلقة للرئيس أو إنقاص الحريات” وأكد أنهم وعدوه أن شيئا من ذلك لن يكون.
8
ظل الشيخ
الترابي رحل، من خالفوه ومن ناصروه يجمعون على أن مشهد السياسة البائس أصبح أكثر بؤسا برحيله، وإن المارد الذي أطلقه في شارع السياسة وفي حياة الناس الإسلاميين، فقد عقله، وأن مصيره لا يعلم به إلا الرحمن، لجهة أن ظل الرجل كان ممتدا حتى على عضوية الوطني، وهم كلما تقع مظلمة على أحدهم، يأتيه “إما معتذرا أو شاكيا”، أو كما قال.
9
صفحة جديدة
في التشييع كانت كل الوجوه التي تحكمت من الإسلاميين خلال العقدين الماضيين حاضرة، علي عثمان محمد طه وعوض الجاز وغازي صلاح الدين، من استوزروا وغادروا ومن هم وزراء اليوم، من دبجوا مذكرة العشرة ومن قاموا من كراسي السلطة حبا وإيمانا بأن الشيخ على صواب، في التشييع هتفوا لكي يكونوا على كلمة سواء، وهتفوا لوحدة الإسلاميين، وهتفوا لوحدة الشعبي والوطني، وهمهموا أن لا فائدة من هذا ومن ذاك.. في التشييع صفحة جديدة فتحت في تاريخ السياسة، والإسلاميين كلمتها الأولى التي ستحدد مصيرها
اليم التالي
ليت الأحياء يعتبرون وبتعاون .
والتقيت به مرة أخرى في منزله في الخرطوم وحينها سألتُه: «أنتَ تقضي غالبية أوقاتك في السجن وأنت كنت حاكم #السودان، فأين خطؤك؟». فردّ الترابي: «حين تسلمنا السلطة كإسلاميين اجتمعنا برموز الحركة الإسلامية وقررنا انه في حال تسلمنا السلطة، فإن الغرب وعلى رأسه أميركا ستعتقد أن المتشددين المسلمين أخذوا السلطة، فرأينا ان نأتي بشخصية عسكرية متواضعة تكون واجهة الدولة تتعامل مع الغرب بانفتاح ومن دون ان تسبب اي خوف من ناحية اتهام الخرطوم بالإرهاب او بحكمٍ متشدد، الا ان هذه الشخصية انقلبت علينا جميعاً حتى أصبحتُ ضيفاً في هذا المنزل (منزله هو) وأصبح منزلي هو الزنزانة (ضاحكاً)».منقول