مقالات وآراء

ورَحلَ المُهنّد !!!

دُنْيَا دَبنْقَا

د. نور الدين بريمة

 

تمّ إنشاء إذاعة نيالا في العام ١٩٨٣م ، لتبث أثيرها عبر موجتها المتوسطة (٥٤٠ مترًا) ، بذبذبة مقدارها (٥٥٥.٥) كيلو هيرز) ، ظلت تغطي إقليم دارفور وبعض مدن السودان ، ودول الجوار ، ثم لحقتها موجة قصيرة على التردد (FM98) ، كانت برامجها تنافس رصيفاتها في الإقليم ، حتى إن بصمتها السمعيّة كادت أن تشق أذهان جمهور المستمعين ، الذين تآلفت نفوسهم واتسعت مدارك وعيهم وتخيّلاتهم المادّيّة والمعنويّة لسماعها، وعندما ينصتون إليها ، يشعرون وكأنهم في علاقة حبّ وود أزلي ، ينغمسون مع حلاوة ألسنها ، من تلك الشخوص الشامخة وهي تشدو عبر الأثير.

 

نحن اليوم مع أحد أساطينها الساحرة ، رضع الأدب والوقار ، لكأنّما عناه المتنبي شاعر العروبة في قوله (ولكن كريم الأصل كالغُصن .. كلما تحمّل أثمارًا تواضع وإنحنى) ، حقًا إن المتنبي جسّد خلق وسلوك ضيفنا بشعره الرصين الناصع ، في وصفه لكرام الأخلاق ، الذي يشعرك حين التقرّب إليه بالإنجذاب ، وتعشق صوته حينما يطير عذبًا وهو يتلو الأخبار ويقدّم البرامج ، فيتردّد نبضه جهورًا عندما يدنو معانقًا آذان مستمعيه ، محلقًا في مدن دارفور الأخاذة والآسرة بجمالها الطبيعي ، ثم سائحًا في بقيّة مدن السودان ، وواصلاً شذاه حتى دول الجوار.

 

وحالما يتسامر أهلنا في نيالا (البحير غرب الجبيل) يُرخون آذانهم لسماع برامج راديو (هنا نيالا) المتنوعة ، عطفًا على نقلها لأخبار الإقليم والسودان والعالم ، عندما ينداح صوتها قويًا ، بحكم موجتيها المتوسطة والقصيرة ، وهي تحمل مايكرفونها ، لتتنقل عبر مجالس ومحافل الولاية والإقليم الوطنيّة المتنوعة، تبث حديثهم ونبضهم المنساب عطرًا زكيًا ، رافعةً للوعي وباسطةً ذراعيها بين الورى ، إسهامًا في تعزيز السلام والإستقرار ، ثمّ بعثًا للوئام والأمل والجمال والمحبّة وسط المجتمعات.

 

ولمّا أسترجع ذاكرتي إلى الوراء قليلاً لأتذكر علاقتي بتلك الإذاعة أذكر أني كنت حريصًا لمتابعة بعض أصدقائي الأعزاء حقًا ، بينهم (مهند) ، الذين إنطبق فيهم قول المتنبي (ما قيمة الناس إلا في مبادئهم .. لا المال يبقى ولا الألقاب والرتب) أي المبادئ التي جعلت مهندًا كُفْئًا ومُقتدرًا وواعيًا ، بل ومدركًا لمستديرته الإذاعيّة ، راميًا أهدافه المعرفيّة في شباكها ، إلى أن غادرها طوعًا إلى مؤسسات إعلاميّة أخرى (البي بي سي) نموذجًا ، علّها أكرمته وأعلت من شأنه ، وما زلت أذكر زيارتي له في مكتبه بالخرطوم ، بغرض التحيّة والتجلّة ، بعد إنقلاب (٢٥ اكتوبر)- إنقلاب البرهان حميدتي- على الثورة الشعبيّة.

 

ثم أردفتها بزيارة أخرى قُبيل إندلاع حرب البلابسة في (١٥ أبريل ٢٠٢٣م) ، بدعوة كريمة من أخي العزيز وزميل دراستي الجامعيّة ، بشير النور أحمد المصطفى ، الذي لم ينقطع وصلي به ، وقد كنّا نسبق إسمه بقريته الكسمبر ، أيّام أن كنّا طلابًا في جامعة وادي النيل -الكسمبر- هي مرتع طفولته وصباه ، تابعة إداريًا لريفي الكاملين ، في ولاية الجزيرة الخضراء ، دعاني صديقي لحضور منتدى (سلا نيوز) ، الذي يديره (مُهنّد) ، مع كوكبة من زملاء المهنة ، تم فيه إستضافت رجل الحصافة والفكر ، دكتور النور حمد ، مُتحدثًا لبقًا عن العلاقة السودانيّة المصريّة ، التي وسمها بالعلاقة الإستتباعيّة الإستعباديّة.

 

عليه إسترجعتني تلك المثقافة السياسيّة ، الإجتماعيّة والإقتصاديّة التاريخيّة ، أن مدينة نيالا تُعد مرفئًا للقيم النبيلة ، قد رفدت كنوزها ودررها إلى المؤسسات المختلفة – وطنيّة كانت أم عالميّة – طالما أنها ما فتئت تمارس سلطتها المعرفيّة ، السلطة التي ظل يحييها فينا ويحثنا إيّاها ، كثير من مستنيري وحمّال فكر أرض المَحْمل ، المعطونين المثقلين بالوعي ، في شتّى ضروب الحياة ، خير مثالي هنا الراحلين المقيمين : آدم أحمد عبدالكريم دقاش ، ومحمد خير الخولاني ، طيب الله ثراهما ، وغيرهما بالطبع كثيرون ، مدّ الله آجالهم وأنار دروبهم.

 

هم الذين أظلّونا بحِكمهم ، مواعظهم ، فُكاهاتهم ، مُلحهم وطرائفهم : نثرًا ، شعرًا وحِكمة طيّبة ، فجميعهم تداعى إسهامًا في معالجة المُشكلات والخلافات ، وزرع في مجتمعاته قيم التعايش ، سيّما وأن إذاعة نيالا حبُلت بزرعها ، فأثمرته ينابيعًا من المعاني والمثل والأخلاق ، جابت به فيافي أهل دارفور خاصة ، والسودان عامّة .. فباتت تمثل إرثًا معرفيًا للأجيال القادمة ، في الحل والعقد ، إذا ما أسكت الله صوت البندقيّة اللعينة! ، وألجمها بلا عودة ، حيث إنها قضت على الأخضر واليابس ، وليس ذلك على الله بعزيز أو بعيد ، وإنه إن قال : كُن سيكون!!.

 

إسترسلت في مقالتي اليوم وأنا مشحون بالألم والحزن ، لفاجعة الفراق ، عندما علمت أن زملاء صاحبة الجلالة – مهنة المتاعب – قد ودّعوا صديقنا الإذاعي الألمعي ، (مهنّد الحُسين)، إلى مثواه الأخير ، حيث لم يزل صوته منافحًا صادحًا في أذني ، كأنّي مستلقيًا على فراشي ووسادتي ، مستمتعًا بصوته في إحدى برامجه ، يرنّ صوته مناديًا ومناجيًا ، أن هلمّوا إلينا ، عندما تعلن دقات الإذاعة (هنا نيالا) ، إيذانًا بالبداية، وحقًا فنيالا حبيبة إلى الأنفس ، أحبّها شاعر (أروى) محمد خير الخولاني ، معزّزًا حبه قائلاً (الريدة كان بالدور .. أول بريد أمّي وبتّان بريد نيالا) فمهنّد يجبرك صوته على أن ترخي السمع له ، وتتابع كلماته الجزلة ، وهو يحيطك بحزم من المُفردات المُموسقة ، التي تمتاز بها قريحته الصحفيّة حتى صارت شعلة أضاءت الطريق.

 

بيْد أن هذه الحرب العبثيّة -كما نعتها عاشقي رقصها- ما زالت رحاها تدور في بلادي ، ممّا أجبرت كثيرين من العُظماء ، أمثال (مهنّد) إلى النزوح ، تاركين مراتع صباهم وأحلامهم ، فكان خياره إلى مدينة بورتسودان ، إلا أن أمر الله قد أزف ، فوافته المنيّة بها إثر علة لم تمهله طويلاً ، فنزل علينا خبر وفاته على حين غرة ، كصاعقة زلزلت بنا الأرض ، غير أنها مشيئة الله وأقداره ، وبموته فقدنا معينه العذب ، وصوته الصادح ، ومهما تعاظمت الإبتلاءات ، ستبقى روحه الطاهرة في قلوبنا ، لأنه رحل جسدًا ، إلا أن دماثة خلقه بيننا ، وكلماته المعطونة بالحبّ والجمال في نفوسنا ، ستظل عقدًا فريدًا في جيدنا ، بل ستبقى تلك المفردات محفورة في ذاكرتنا.

 

بعد وفاتك يا (مهنّد) أيقنت أن الفواجع تبقى كما هي ، ولو مرّ عليها الأيام والشهور أو الدهور ، وأن الحزن على رحيلك لا يموت ، فلا ألم يضاهي ألم فقدك ، ولا ذكرى أبشع من ذكرى رحيلك ، ولا حزن يفوق حزن وفاتك ، يا من أوجعتني بفراقك ، لكن ستظل سيفًا قاطعًا للكلم ، وأنت أفضل وأجود مَنْ عرفت مِن الأصوات التي سمعتها ، وقد عناك إسمًا ومعنى-عنترة بن شدّاد- في إحدى أشعاره قائلاً (فطعنته بالرّمح ثمّ علوته بمهندٍ صافي الحديد مخزمَ).

 

وصدق من قال : إن الصديق الحقيقي لا يرحل أبدًا ، فروحه تظل حيّة في ذكريات من أحبّوه ، يرفعونها لأنفسهم ذكرى الرحيل ، فالذكر له عمر ثانٍ نعم مات (مهنّد) ويموت غيره كثيرون ، وسنموت نحن عن قريب أو بعيد ، وننْزِل منازلنا كما نزلت ، ونقف بين يدي الملِك الدائم يوم الوعيد ، هذه سنة الله تعالى في خلقه ، أنه لا باقٍ سِواه ، والكل سيفنى.

 

نودعك يا (مهنّد) بدموع الصمت وحنين اللقيا ، لكن يكفينا أنك تركت بيننا سمعتك ، طيبتك ومحاسنك ، التى لن ننساها أبدًا ما حيينا ، ففراقك شاق ، لأنه فراق أبدي ، يشيب الوليد ، ويذيب الحديد .. ولكن عزاؤنا وسلوانا أن نتدرب على النسيان ، لنستطيع العيش ، يجب أن لا نبكي على أصدقائنا ، إنها رحمة أن نفقدهم بالموت ، لا أن نفقدهم وهم أحياء.

 

ما أروع أن تصادف إنسانًا مهذبًا ، يفوق حدّ الإدراك! ، يجبرك أن تشتاق إليه ، تأمرك روحه أن تسأل عنه وتدعو له ، وبغيابك يا (مهنّد) فقد أصبحنا في أمس الحاجة إلى الإرتواء من معينك العذب ، وأن نجغم ملاوي من صلابتك ، نتجاوز بها الفقد الجلل ، لأن جُغمة الملوة -الواحدة لمكيال الصلابة- لا تكفينا بالتأكيد لتجاوز ما نحن فيه الآن ، وبالتالي دعونا نستلهم المواعظ والعِبر من هذا الوادي المُنساب دفئًا وحنانًا وحُبورًا ، وهو المتدفق رحمة وإنسانيّة ، لعلّها تنسينا عِظم الفراق ، ضنك الحياة ومآسيها ، وتلهمنا صبرًا وقوّة ومنعة ، لنتعافي من هذا الرهق ، التشظي ، الإنحطاط ، الصراعات والحروب ، التي لازمت بلادنا منذ أمد بعيد.

 

مثلما نرفع أكفنا لله متضرعين بأن خبرتك وذخيرتك المعرفيّة يا (مهنّد) ، ستظل مصدر إلهام لنا للتشافي من الأسقام والأورام ؛ لأننا أكثر إحتياجًا لحلمك المليئ بالمصداقيّة ، وحبّك للإعلام والوطن والإنسان ، حيث لم تألوا جهدًا طيلة حياتك أن تقدّم معارفك إلى الجميع ، دون منّ أو رياء ، مصحوبًا بإبتسامتك المعهودة التي لم تفارق وجهك الصبوح ، حيث لم تبخل يومًا بفضلك ، جودك وكرمك ؛ لله درّك من هذا الإحسان ، المتدفّق وطنيّة وإنسانيّة ، فالمهنّد عرفته ، إنسانًا دمثًا خلوقًا ، مُمسكًا بقيمه ومبادئه ، ومنداحًا بين معارفه حبًا وسلامًا ، لم يبارح قناعاته التي آمن بها قيد أنملة ، مؤكدًا أن سلاحه هو : القلم والقرطاس ، مدافعًا ، منافحًا ومثابرًا عليها ، على الرغم من : نرجسيّة ، إستعلائيّة وسخريّة النخبة الحاكمة ، ومعاداتها لذوي الرأي السديد والقلم المديد يتحسّسون مسدساتهم عندما يسمعون صريرها ، لأن الدكتاتوريات منذ الأزل ، عُرفت بمعاداتها للوعي والإستنارة ، وصدّها لكل من يجرؤ على إتباعها والسير على هداها المفروش بالأشواك.

 

فالمهنّد ومن سار على دربه ، من دعاة الخير والجمال والصلاح والفلاح، لن ينقطع مدادهم من توعية الناس وحثهم على : التحابب لا التباغض ، على السلام لا الإحتراب ، على الإنتاج لا الخراب والدمار ، نسأل الله الحي القيوم بديع السماوات والارضين ، أن يلهمنا في فقدنا ومصابنا الجلل ، الصبر والسلوان وحسن العزاء ، كما ندعوه تعالى بأن يظل ميراث من فقدناهم نذرًا وديْنًا علينا ، نوفّي بها قدرًا من التعايش والسلام والوئام ، ونرجوه أيضًا بأن يُنزل على فقيدنا (مهنّد) -الحبيب الأريب- ومن جاوره السكينة والغفران ، وأن يبدله أهلاً خيرًا من أهله ودارًا خيرًا من داره يوم التناد.

 

ويجعل المحبّة بين آل بيته ، أبنائه ، أحبابه ، أصدقائه وزملائه ، وكل عارفي فضله ، كما نأمل صادقين جاهدين ، أن نشدّ وثاق محبّتنا بيننا ، ونعمل على أن ترى أفكاره ، مبادئه وقيمه نورًا على السطور والصدور ، سيّما وأنه كان يحدوه الأمل في تحقيقها مُنجزات وأسفار ، تسوح خلالها الأجيال ، تتكؤ على قيمها ومعانيها تحاببًا وتعايشًا ، لأن المعاناة وشظف العيش ، لم تسعف كثيرين من مفكري بلادي وكنوزها ، أن تعانق أسفارهم الأجيال ، بل حرمت الأجيال من معانقتها ، حتى إنتقلت روحهم الطاهرة الزكيّّة إلى بارئها ، الحي القيّوم ستّار العيوب غفّار الذنوب.

 

إن حزني عليكَ يا (مهند) كالمدّ والجزر في بحر مُتلاطم الأمواج ، لن يسكته شيئ ، ففي قلبي حلّقت غيوم الحزن السوداء ؛ ليبدأ فصل جديد من البكاء على فراقك ، وكلما هاجتني العبرات ، وبدأ قلبي يرتجف ، شعرت برغبة جامحة ، لأشعل في قلبي منارة تنير ظلمتي ، أيّها الصديق الأثير ، إنني أتطلع إليك من دار الشقاء ، وأنت في دار : البقاء ، النقاء والصفاء ، أبعث إليك بكلمات نسجت خيوطها السنين ، بأحرف من نور سرمدي ، وأترحم على روحك الطاهرة ، بعد أن خطفتك مِنّا يد المنون ، في عز شبابك – على حين غرة – التي ما زالت تخبط فينا وبيننا خبط عشواء ، بدون شفقة ، وبدون هوادة ، تسلبنا أحباءنا وخلاننا وأقرباءنا ، رحمك الله رحمة واسعة ، وجعل قبرك في نور دائم لا ينقطع .. اللهم أجعله في جنتك آمنًا مطمئنًا يارب العالمين .. آمين.

 

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..