ساعات في رِماح

ساعات في رِماح

محمد التجاني عمر قش- الرياض
[email protected]

بعض اللحظات والأحداث مهما كانت عابرة تترك أثراً بالغًا في النفس والذهن فيجول الخاطر في التاريخ و الواقع والحاضر والمستقبل وكل تلك قد تزدحم عليك في لحظة واحدة. ومن اللحظات التي ظلت تشغل فكري طوال هذا الأسبوع ساعات من النهار قضيتها في مدينة رِماح التي تقع في وسط صحراء الدهناء إلى الشرق من العاصمة السعودية الرياض.
فقد اجتمع هناك نفر من السودانيين جاءوا من مناطق متفرقة فهذا إبراهيم من منواشي في دارفور ومحمد عبد الرحمن من دميرة بشمال كردفان و محمد علي من شندي و خالد أبو بكر من الدلنج و على الكباشي من حمرة الوز و عبد الله من زغاوة كجمر؛ رجال ليس بينهم نسب أو صلة رحم ولكنهم سودانيون جمعتهم ظروف الغربة والعمل فصاروا إخواناً متحابين كأنهم قد رضعوا من ثدي واحد؛ تختلف أعمارهم ومهنهم وألوانهم وسحنتهم ولهجاتهم ولكن تسود بينهم الألفة والمودة. ولما هممنا بالرجوع قالت ابنتي الصغيرة سُكَينة ” يا بابا ناس عمو ديل طيبين خلينا نقعد معاهم ما نرجع الرياض”؛ فقد بالغ الإخوة في إكرامنا و حسن استقبالنا وهذا هو حال السوداني أينما حل يحمل معه شيم الأصالة و الكرم والإخاء التي ورثها من أسلافه وظل يحافظ عليها لا تغيره صروف الليالي وتقلبات الظروف.
رفاق الضيف أنى حلّ هبوا لهم للضيف ضمٌ والتزامُ
إذا نحروا العِشار مُودّعاتٍ فلا منٌ بذاك و لا كلامُ
فمنذ أن دق عبد الله بن أبي السرح أطنابه في دنقلا بعد توقيع اتفاقية البقط بدأت موجة من التلاقح الحضاري والعرقي والثقافي ما فتئت تنداح في هذه البقعة المترامية من الوطن على الرغم من العراقيل التي تعترض سبيلها من فينة إلى أخرى في محاولة لزرع الفتنة بين مكونات هذا المجتمع بغرض ضرب نسيجه الاجتماعي وتفكيكه لا سمح الله. وقد نتج عن ذلك الامتزاج إنسان خلاسي هجين ليس بالعربي ولا هو إفريقي وإنما هو عوان بين ذلك يأخذ من كل طرف أحسن ما فيه وتمتزج فيه الدماء والأعراق فتحدث خَلقاً و مزاجاً متفرداً لا تكاد تجد له مثيلاً في العرب و لا العجم. في تلك اللحظات سألت نفسي ما الذي يفرق السودانيين ما داموا على هذه الدرجة من النقاء والشهامة؟ هل هي أخطاء التاريخ أم فشل السياسة، أم طموحات الأشخاص والجماعات أم تدخل الأعادي والطامعين أم كل هذه الأمور مجتمعة؟
عدت بالذاكرة إلى السلطنة الزرقاء التي تمثل أول حلف سياسي بين الغابة والصحراء وقدمت بذلك نموذجاً في التلاحم والوحدة فدامت ردحاً من الزمن. ولكن المهدية أحدثت فتقاً كبيراً بانقسام الناس إلى “أولاد الغَرِب وأولاد البَحر” نتيجة بعض الأخطاء والحماقات وظلت تلك القسمة تعمل عملها إلى يومنا هذا وإن خفت حدتها قليلاً بسبب التواصل وانتشار التعليم والتقاء الأجيال في مؤسسات القومية المختلفة.وبعدها سعى المستعمر الإنجليزي بكل خبث و مكر لتطبيق سياسة “فرّق تسد” فأغلق بعض المناطق و منع الدخول إليها و أقام حواجز أمام تمدد الموجة التي أشرنا إليها، ولولا الجهود التي قام بها بعض مشايخ التصوف لظلت تلك المناطق معزولة ثقافياً عن بقية أجزاء البلاد.
بعد الاستقلال كان من المأمول أن تقوم الأحزاب السياسية، باعتبارها منظمات مجتمع مدني حديثة، بدور فعال في إذابة الفوارق القبلية والجهوية بين السودانيين إلا أن هذا الأمل قد ذهب أدراج الرياح لغياب المنهجية والتخطيط السليم حيث ظلت الأحزاب تحت سيطرة الطائفية التي تقوقعت في سياج مصالحها وظلت تكرّس كل جهدها لتحقيق مكاسب آنية ضيقة لا ترقى لخدمة الأهداف الوطنية بل تنحصر في أفراد وأسر بعينها تسخّر أفراد الشعب عبر وسائل بائسة لخدمتها والمحافظة على سيادتها فقط؛ وحتى الأحزاب العقائدية من اليمين واليسار قد أخفقت بدرجة ملحوظة في إحداث تغيير نحو الوضع المرجو. ولذلك يتهم المراقبون الحكومات الوطنية المتعاقبة بالفشل الواضح في تحقيق الوحدة الوطنية التي تقوم على أسس و منهج تربوي وسياسي وطني من شأنه أن يحول دون حدوث هزات اجتماعية كتلك التي ضربت دارفور وكادت تدخل البلاد في جحر ضب أو كما حدث في جنوب كردفان والنيل الأزرق مؤخراً.
ولله در محمد المكي إبراهيم إذ يقول:
لحى الله قوماً مزقوها وأبعدوا شقيقين كانا خُلّة وخليلها
على طلل السودان حلّ لك البكاء وحلّ لأنهار الدموع مسيلها
و ما الدمعُ والحزنُ العقيمُ بنافعٍ إذا لم تعبىّ للطراد خيولها
إنّ هذا الشعب يحمل في جوانحه ودواخله مقومات يمكن أن تجعل منه شعباً رائداً في المنطقة شريطة أن تتحقق بعض المطالب التي تتمثل في أيجاد ثوابت وطنية راسخة لا يصل إليها الخلاف مهما كانت الأسباب والمبررات ولا ينبغي التعدي عليها لتغير الظروف السياسية أو الاقتصادية. وهذا ليس حلماً وإنما هو استقراء لحال الدول و المجتمعات التي كانت تعاني وضعاً أكثر تردياً مما نحن فيه الآن ولكن بإخلاص الحادبين من أبنائها استطاعت التوصل إلى عقد اجتماعي قابل للتنفيذ في كل زمان و تحت أي ظرف و ملزم لكل من يصل إلى سدة الحكم فحلت مشكلاتها تماماً؛ وإذا نحن لم نحقق هذا فلا نلوم إلا أنفسنا وسنظل نعاني من هذه الفتن التي تهدد السودان بمزيد من التمزق و التخلف.
وهنا تجدر الإشارة إلى أهمية مناهج التربية والتعليم التي يجب أن تكون الوسيلة الأولى لتحقيق هذا الحلم النبيل و من بعدها تأتي الهيئات التشريعية التي تقع على عاتقها مسئولية وضع دستور دائم للبلاد يستلهم العبر من التأريخ والتراث و يستوعب مستجدات الحاضر و يستشرف المستقبل؛ وعلى أحزابنا السياسية توخي الشفافية والشورى عند اختيار قادتها و برامجها حتى ترسى سفينة السودان في بر الأمان والرفاهية والتقدم وما ذلك على الله ببعيد.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..