مقالات وآراء

تأملات في قصة “مُذكِّرات جُثَّة مُنْتَّفِخَة بالحيَاة” للكاتب الصديق “عمر الصايم”

مهدي يوسف إبراهيم

” مُذكِّرات جُثَّة مُنْتَّفِخَة بالحيَاة” هي إحدى قصصِ مجموعة ” فضائحُ محفوفةٌ بالورد” للكاتب السوداني” عمر الصايم”، والتي صدرت عن “دار نون للطباعة والنشر” في العام 2024م…
تحكي القصةُ عن كاتبٍ يعيشُ في مدينةٍ يحتربُ طرفاها. وقرب محطة الوقود يعثرُ الكاتبُ ذات يومٍ على مذكرةٍ ملقاةٍ على الأرض بجانب جثة جندي. يسرقُ الكاتبُ المذكرة وهو يمنّي النفس بكتابة قصةٍ أدبيةٍ ستملأُ الآفاق ، لكنه يفاجأ حين يعودُ إلى بيته بأن الجندي كتب يومياتٍ عن دجاجةٍ أحبها ديكٌ كان يأتيها من جهة العدو وعن صيصانَ سعيدةٍ هي ثمرة تلك العلاقة. تنتهي القصةُ نهايةً تراجيدية إذ يهرسُ الجنديُ بمجنزرته– وهو في طريقه إلى قتال عدوه – الدجاجة وصغارها ، فينهار حين يكتشفُ بشاعة ما فعل ويندفعُ راكضاً بعيداً عن المجنزرة ، لكنه يلقى حتفَه برصاصٍ مجهول المصدر.
“التضاد” هو ثيما القصةِ الكبرى ، وأعنى به التضاد بين صناعة الحياةِ وصناعة الموت … بين الحبِ والبغضِ وبين العطاءِ والبخل بمعناهما الإنساني العميق … وقد اختزل “عمر الصايم ” هذا التضاد في كلمتي “جثة ” و “حياة” اللتين وردتا في العنوان …
من ثنايا هذه التضادات تخرجُ “ثيما” أخرى وردت كثيراً في قصص المجموعة وهي قدرةُ الإنسان الهائلة على إفساد وتخريب الحياة وذلك بتدخله في ميكانيزماتها التلقائية .. وتقفُ الحربُ كواحدة من تمظهرات هذا التدخل السافر الغبي …
تبدأُ القصةُ كما أسلفتُ بعثور الكاتبِ على جثةِ الجندي قرب محطة الوقود (منذ ظهورها الأول في القصة وردت كلماتُ “الكاتب والجندي ومحطة الوقود” بصيغة التعريف) … اختيارُ محطة الوقود له رمزيته العالية … فالجنديُ وقودٌ للحرب ووقودٌ للساسة ، والكاتبُ وقودُ لهوسه بكتابة قصص “يزاحمُ بها الآفاق”، والقادة وقودُ لهوسهم بالانتصارات والتاريخ ، والدجاجة وصيصانُها – رمزا الحياة والحب – وقودٌ للاحتراب ..
اختيارُ اللون الأخضر لمذكرة الجندي فيه توفيقٌ هائل … فداخل المذكرة ترقدُ قصةُ حب ومشروعُ حياة ، كما أن شخصيةُ الجندي في القصة مختلفةٌ عن شخصيات الجنود التي لطالما قرأنا عنها في أدب الحرب الكلاسيكي …ولم ينس “عمر الصايم” أن يشير بذكاءٍ إلى أن اللون الأخضر عليه بقعُ دمٍ فاقعُ الحمرة .. (تصبح هذه البقعُ أكثر لمعاناً في نهاية القصة كإشارةٍ لثورة التغيير التي طالت شخصية الكاتب في النهاية) …
في قصة “جثة منتفخة بالحياة” يسخرُ ” عمر الصايم ” من الحرب سخريةً عظيمة … وهو لم يفعل ذلك خلال قصة حبٍ بين شابٍ وفتاةٍ من أسرتين عدوتين – كما فعل شكسبير في “روميو وجولييت”- ولكن من قصة حبٍ تولّدت بين ديكٍ ودجاجة … ويُحسبُ للصايم أنه جعل الدجاجة في معسكر الجندي ، والديك في معسكر أعدائه … ويصفعنا “الصايم ” بهذه العبارة التي كتبها الجندي وهو يحكي عن الديك والدجاجة والكتاكيت في مذكرته:
أظنُّ أنَّ هذه الحرب لا تعنيهم في شيءٍ، وأنَّهم ينظرون إلينا كأغبياء عابثين بالحياة ليس إلَّا”..
ولأن الحرب لا تحتملُ الحبَ فقد قام جنديٌ مهووسٌ بالتخابر بتفتيش الديك ونتف قوادمه خشية أن يكون جاسوساً ، مما أجبر الديك على التغيب عن محبوبته ليومين وبالتالي تأثر إفقاس البيض. هنا يوردُ ” الصايم ” واحدةً من أعظم عباراته في القصة:
” هكذا نحنُ البشرُ عندما نتدخلُ بأيدينا نعطِّل دبيب الحياة”…
لا ينظرُ “الصايم” للحرب كظاهرةٍ اعتباطية ، بل يراها ثمرةً طبيعيةً لفشل الساسة والمثقفين معاً في إقامة مجتمعٍ متمدنٍ ولذلك حرص على إبراز عيوب الكاتب بصورةٍ دقيقة ، إذ صوّره يعيشُ في حافة الوجود الحقيقي في بلاده:

” تجاهلَ صوتَ الرصاص المدوّي من شارع بعيدٍ”
(القصة ، صفحة 6)
وهو – الكاتبُ- مراوغٌ وجبان:
“”أغذّ السيرَ نحو سيارته الناجية من محرق الحرب بفضل حصافة الكاتب وقدرته على الاختباء بها بعيداً عن القصف”
(القصة ، صفحة 6)
وهو خائنٌ عظيم :
” ها هو يخونُ المشاعر الإنسانية في سبيل كتابة نصٍ قصصي ؛ مِمَّا يلقي به في متاهة خياناته الوطنية التي ظلَّ يتهرب منها متعمدًا”….
(القصة – صفحة 6) …
كما أن سلوكه يناقضُ كتاباته:
“”تذكر أنه باع الحب نفسه رغم تمجيده له في كتاباته ، لطالما خان الحبيبات ”
(القصة – صفحة 9) …
وهو غارقٌ في بركةٍ من الوهمِ والضبابية :
“بدأ يفكرُ في صلعته الصغيرة ، كيف احتلت رأسه بعد أنْ تدخل لإخفائها، لم يعترف بها وظل يخون شكله الحقيقي باحثًا عن شكله الأمثل أو المُتَوَهَّم”….
(القصة – صفحة 11) …
وهو باردُ المشاعر:
“انتبه الكاتبُ إلى قهوته التي لم يرشف منها شيئاً .. باردة ومنطفئة كقلبه”
(القصة – صفحة 10) ….
بل إنه لا يعترفُ حتى بشكله، وقد حاول إخفاء صلعته وتغيير صوته ليتحدث كاتب كبير …
ونحنُ لا نعلمُ كم عمر هذا الكاتب … لكن “عمر الصايم” يشيرُ إليه إشارةً لطيفةً بقوله:
” أعدَّ لنفسه قهوة خالية من السكر ، كما يُفتَرض في مثقف بلغ سنّه”.
ثم ما يلبثُ أن يقولَ بشكلٍ تقريري أنه مصابٌ بداءِ السكر:
“شعر بغثيان ، بأوصاله ترتجف ، ثُمَّ ببوادر انخفاض السكر في دمه ، أخذ قطعة من السكر ” …وجزئية إصابته بمرض السكّر هذه تكثّف من “العجز” الذي صوّر به ” الصايم” شخصية الكاتب…
من البداية ندركُ أن اهتمام الكاتب بالمذكرة والجندي اهتمام مبعثُه الأنانيةُ المحضة :
” سيقرأها الآن بكافة عناوينها ؛ ليبدأ قصته التي يزاحمُ بها الآفاق. “…
ربما يكون “عمر الصايم” قد نظر إلى شخصية ” كابتن بلنتشلي”في رائعة” الرجل والسلاح ” للمسرحي العظيم ” جورج برنارد شو ” …إذ ثمة خيطٌ رفيعٌ يربطُ بينها وبين هذا الجندي المختلف …. فكابتن “بلنتشلي” كان ينتبذُ ركناً قصياً في المعارك.. ويتسلّى بمشاهدة القتال وهو يلتهمُ الحلوى …
وربما يكون “الصايم “كذلك قد استلهم فكرته ولو جزئياً من أن المقاتلين الرومان القدامى كانوا ينفقون ساعاتٍ طوال في تذويق ملابسهم وتسريح شعورهم وطلاء أظفارهم حتى يذهبوا إلى ساحات القتال وهم في أعلى أبهة وزينة …
بجانب المثقفين الانتهازيين، يعرّي “الصايم” دور الساسة الفاسدين في الحروب:
“الآن فقط حركت الأيدي الخفية أيدي الجنود نحو مقابض السلاح”
(القصة – صفحة 11)

يشيرُ” الصايم” إلى أن إيقاد الحروب بات تجارةً للبعض يثري من خلالها:
” ستفرحُ شركات بيعه (السلاح) وتغنمُ الربح الوفير
(القصة – صفحة 11)
الحربُ إذن حالةُ تواطؤٍ وتآمرٍ جماعيين ضد الحياة!!
بذكاءٍ هائل يخبرنا “عمر الصايم” على لسان الكاتب أن مكانُ جثة الجندي غيرُ معلوم .. وأنه لا أحدي يدري إن كان قد مات على أيدي أعدائه أم قادته … كل هذا يكثّفُ من عبثية الحرب وفوضاها العمياء …
مع خاتمة القصة يحدث تغييرٌ جوهري في شخصية الكاتب:
” أنَّه لا يرغبُ في المجد الأدبي ، هو أيضًا محض زيف كمجد الحروب ، تصنعه الأيدي الخفية ، والشركات متعددة الأنشطة والجنسيات، اكتشف أنَّه يريد أن يحيا فقط”(القصة – صفحة 13)
مثلما طال التغييرُ شخصية الجندي من قبلُ:

” حدَّثتُ نفسي أنَّنِي لو خرجتُ من هنا سالماً ؛ فإنَّ أوَّل ما سأفعله هو البحث عن أنثاي في هذا الكون، ستكون أنثى في رقة وحميمية دجاجتي السمراء ، وسأكون لها ديك العدو القريب من القلب،”…
(القصة – صفحة 10)
ولذلك تردُ هذه العبارة الحاسمة عن الكاتب:
” قرَّر ألَّا يكتب هذه القصة مطلقًا، أن تظل سرّه الأعظم”..
(القصة – صفحة 13)
إن الكاتب هنا -و للمرة الأولى في حياته- لا يتعامل مع درسٍ من دروس الحياة كمادةٍ لإحدى قصصه ، بل يتخذه سراجاً منيرا …
لم يقدّم ” عمر الصايم ” تاريخ كتابة هذه القصة.. لكن من اليسير استشفاف أنها كُتبت الحرب الدائرة في السودان منذ عامٍ ونيف…
بالطبع لا يمكنُ إنهاء هذا التأمل دون الإشارة إلى جمالية لغة “عمر الصايم ” الرقراقة ، العذبة ، التي تلامسُ في بعض مراقيها تخوم الشعر … كما لا يمكنُ إغفال بصمته الخاصة في إيراد صوره الخاصة به مثل قوله:
” استفحل الصلعُ، وتوقف شعرُه عن أن يدبَّ في رأسه، وبدلًا عنه دبّت التجاعيد في عنقه ، حتَّى حاصرت تفاحة آدم التي يعوِّل عليها في تغيير صوته عندما يتحدَّث ككاتب كبير”…
وبعد
فهذه قصة تستحقُ القراءة والتأمل والاحتفاء!! .

تعليق واحد

  1. في مدينة صغيرة على ضفاف نهر، اندلعت حرب طاحنة بين قبيلتين جارتين بسبب صراع على موارد الأرض. وبينما كان الجنود يتبادلون النيران، ظهر طفل صغير يحمل زهرة بيضاء في يده. وقف الجميع مذهولين وهم ينظرون إليه، فتوقفت الحرب فجأة، وبدأت القبيلتان تتفاوضان بدلاً من القتال، إلى أن وقع اتفاق سلام تاريخي، وأصبحت الزهرة رمزاً للسلام في تلك المدينة الصغيرة.

    هذه قصة قصيرة جدا من تطبيق ChatGPT
    كلمتها المفتاحية الحرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..