لم ينجح أحد

نحن أبناء الولاية الشمالية هذه العبارة لم تكن تعنينا مطلقاً لا من قريب وبعيد لأننا ببساطة متناهية دوماً في المركز الأول ولا نرضى بالمركز الثاني.. نحن الأول تهميشاً.. تعليماً.. ثقافة وتراثاً.. أدباً وفناً وشعراً.. كتابة وقصة ونثراً.
كنا نسمع عبر المذياع هذه العبارة بإندهاش مطبق نهاية كل عام دراسي.. كنا نتساءل باستغراب أشد كيف لا ينجح أحد في مدارس كثيرة ومتباينة ومختلفة داخل وطننا الحبيب الغالي بربوعها الشاسع.. حاضرتها وبداوتها.. مدنها.. قراها.. هجرها.. في المدارس الحكومية.. الأهلية.. النهارية.. المسائية.. اتحاد المعلمين.. لا يعقل أن يكون الكل فاشل.. راسب.. غير ناجح.
(لم ينجح أحد) في مفهوم البعض أو الغالب الأعم بالنظرة الضيقة خاص بالطالب وحده.. هذه العبارة الفضفاضة اعتبرها جامعاً وشاملاً البيئة.. البيت.. المدرسة.. المعلم.. الطالب، كلهم مشاركون في الاخفاق والفشل بنسب متفاوتة.
كان الألم يعتصرنا والأمل يحدونا باختفاء هذه العبارة في يوم ما.. نحمد الله كثيراً أننا كشماليين لم نتجرع مرارة الاخفاقات خاصة في مجال التعليم بعقليتنا وإمكاناتنا الذاتية البحتة.. كنا وما زلنا الأكثر تهميشاً والأكثر تعليماً.. لم تكن لدينا أدنى معينات التعليم من كهرباء ومكتبات ومعامل ودور نشر ووسائل ثقافة من تلفزيون وسينما.. تصوروا لم يكن بوسعنا سماع إذاعة (هنا أم درمان) إلا في فترات متقطعة محدودة ونادرة وحسب الأجواء المناخية وبعد تحايل شديد بتوصيل الأسلاك التي كنا نستخرجها بعد حرق إطارات السيارات وربطها بـ (أنتل) الراديو بعد تنصيب جريد أو حديد بأعلى سقف المنزل.
ما جعلنا كشماليين صفوة ومنارات علم هو الانضباط المجتمعي من حول والتكاتف الأسري والعلاقة الحميمة بين السلسلة التعليمية من مدرسة ومدرس ومنزل وطالب.. الكل والد..الكل ولد.. الكل مسؤول وراعي.. الكل رعية.. نظام الداخليات.. الطابور والنظام بدءاً من جرس الشاي.. الراحة الاجبارية وقت الظهيرة (القيلولة).. تمام المغرب يعقبها شاي الحليب (الصاموتي) على رأي الدكتورة ناهد.. المذاكرة الليلة الاجبارية من السادسة إلى الثامنة، أحياناً من السابعة للتاسعة وأقصاها من الثامنة للعاشرة حسب بعدها وقربها من الاختبارات.
كنا نختار الجبال والكهوف للمذاكرة بتركيز عال بعيداً عن الضوضاء.. على أفضل حال كانت الرتينة (الكولب) سراجنا المنير باعتناء خاص عمنا إبراهيم صالح ومحسوب عبد الفراج ألف رحمة ونور تنزل عليه.. نتشارك عصبة في جمع قيمة الجاز لـ (اللمبة) للمذاكرة الإضافية التي تعقب الإلزامية و(الدقش)، فئة معدمة حيلتها كانت (المسرجة) أو الشمعة.. (اللمبة) و(المسرجة) أحياناً لا نجد شريطها ونبتكر بدائل اخرى مثل تقطيع قطعة من الدمورية (وزنة عشرة) ونفتلها أو دبارة من بواقي تجار البلح.. رغم كل هذه الصعاب والمعوقات والعقبات دوماً كنا الأول.
انقضت الخطة الخمسية للرقم الوطني والجواز الإلكتروني وتبعتها الستية وربما السبعية والعشرية قادمتين.. هذه الخطة فشلت فشلاً ذريعاً.. كيف لم تتمكن الدولة ممثلة في وزارة الداخلية وكافة فروعها من الجوازات والأحوال المدنية والشخصية وهلمجرا وشؤون المغتربين والسفارات والقنصليات والملحقيات من القضاء على الأخضر (الجواز) مع ان القضاء على الأخضر واليابس من أسهل الأمور ـ حقيقة كنت أتمنى استمراره ـ فقط للتفاؤل من اللون.. ست سنوات بالتمام والكمال والدولة عاجزة من التغطية الكلية ومنح مواطنيها هذه الوثائق الإلكترونية.. لماذا تستغرق مدة استخراجهما الشهرين والتلاتة والأربعة؟! هل هي معضلة إعجازية وتقنية بمواصفات صعبة ومستحيلة ومكلفة؟!.
هنا في الفشل الوثائقي، الدولة مثل المدرسة التي (لم ينجح أحد).. الكل فشل.. الكل رسب.. الكل (لم ينجح أحد)
الدولة ممثلة بالرئيس والداخلية ممثلة بالوزير وكل المسؤولين ليسوا براء من تعطيل وتعذيب طالب الوثيقتين.. الآن فقط عرفت معنى ألم الفشل والرسوب وأدركت معنى (لم ينجح أحد).
عملاق النوبة الفنان (حسين ألالا) كان محقاً بثقته المفرطة بطلاب وطالبات المنطقة عندما ألّف قصيدة نوبية وشدا بها شاحذاً هممهم قائلاً: (أوله ويتيه فسقط وديدمونا.. جامعة أولوق فجنقا تبجنا).

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. ليس الفتى من يقول كان ابي، ان الفتى من يقول هاناذا ! او بالمعنى : خذوا رحاطت حفيدات مهيرة.تستاهلوها.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..