ميتتان للكاتب المصري نبيه الصعيدي

قدتُ دراجتي القديمة المستعارة من طالب فقير آخر، وكانت من دون أنوار ومستلزمات سلامة أخرى كالفرامل، واتجهت عصر ذلك اليوم إلى قرية القنايات لمفاجأة نبيه بالزيارة، وكان أن قادني إليه رأساً عبر أزقة كثيرة بدت كالمتاهة، فلاحٌ بجلباب أزرق، وكانت فرحة نبيه الطفولية الكبرى، وهو يراني أمامه على حين غرة، في تلك الأنحاء. وكما جرت العادة عند زيارات المكتب، أغرقني نبيه بالسجائر، كما لو أنّها أعلى أشكال الضيافة المعتمدة لديه، وهو يؤكد أننا سنزيّن احتفالاتنا الصغيرة بالفول والطعمية، في حال تخرجي قريباً في الجامعة، وهو ما لم يحدث لأن نبيه اختنق قبلها على الأرجح بدخان سجائره القوية تلك، وهو يغالب ثقل معنى العالم وخفته صعوداً وهبوطاً في آن، ثم سألني فجأة ما إذا كنت أعرف فلاناً، وكان أحد أساتذتي في كلية الآداب، فقال أنه منهم «من القنايات هنا»، وما إن علم أنني رسبت في مادة ذلك الأستاذ، حتى قادني إليه رأساً، ومن خلال أسلوب نبيه المباشر تمت تسوية المسألة تالياً، من دون أن يشهد نبيه نهاية ما بدأ هو من «خير!»، لأنّه صار عندذاك، أو كما سبقت الإشارة، في عالم الموتى.
كانت زيارة نبيه مؤسسات النشر الحكومية في القاهرة تتكرر عبر السنوات، ويحدث فيها الأمر ذاته، ثم ذلك المدعو «اليأس»، والفارق الوحيد، الذي ظلّ يحدث في أثناء تلك الزيارات كان يتمثل ليس في النشر، بل في زيادة عدد المسودات التي أنجزها، ويبدو لي الآن أن من العسير جداً على أي بيروقراطي التعاطف مثلاً، مع عمل إبداعي تبدو رحلات أبطاله نحو أراضين كثيرة تقع في العمق من أرضنا هذه. في ذلك اليوم، وهذا ما تناهى إليَّ سماعاً بعد رحيله، خرج نبيه الصعيدي من مباني الهيئة العامة للكتاب، أو هيئة قصور الثقافة، كعهده دوماً بخفي حنين، وقد انتزع هذه المرة مسودات أعماله المودعة هناك في انتظار النشر ورمى بها إلى النيل. هو فعل ذلك مثلما قد يفعل في الموقف ذاته أي بطل ملحمي آخر يظهر فجأة في غير زمانه. أجل، مات نبيه تالياً؛ بعد مرور فترة قصيرة. إلا أنه كان يبالغ في الاهتمام بمسوداته، ويقوم بطباعة أكثر من نسخة من كل مسودة، بتكاليف باهظة، بحسابات دخله المحدود، ولا ينسى في الأثناء أن يعمل على تغليفها أو تجليدها بالحنان الأبوي الذي يليق بطفل وحيد.
مرت الأيام، وتباعدت بي السبل والطرق والسنوات، ثم اتصلت أخيراً، مِن أستراليا حيث أعمل وأقيم؛ بصديق مشترك، هو الكاتب العربي عبدالوهاب. في أثناء استعادة تلك الذكريات، خطر لي فجأة أن أسأله عن ميراث نبيه الصعيدي الثمين الذي لم ينشر، واعتذرت على تقصيري، وأنا أسأله البحث عن طريقة ما يمكننا أن نساهم بها في نشرها. مرة، في أواخر الألفية الماضية، طرَق صديق أخرق باب شقتي المؤجرة في القاهرة، وأخبرني من دون مقدمات بأن صديقي الكاتب مجدي حسنين؛ المحرر في صحيفة «الأهالي» وقتذاك مات بالسكتة القلبية. ما أحمده أن العربي عبدالوهاب في أثناء تلك المكالمة قام بتهيئتي جيداً، لتقبل أمر يبدو لي أكثر قسوة من موت الفجاءة، وهو يخبرني أنّه قام بلقاء أحد ورثة نبيه، على خلفية احتفالية عامة في قصر الثقافة بالزقازيق، وأخبره ذلك الوريث بما يشبه الفرح تأكيداً أنّه قام بحرق كل كتب وأوراق قريبه التي خلّفها بعد موته؛ لأنّها كما يزعم «ليست ذات فائدة».
سلامات يا عبد الحميد وشكرا على المقال الوفي الجميل. ليس من حزن يوازي موت ذلك الكاتب دون أن يرى تحقق طوحه المستحق، سوى تلك المحرقة التي نصبت بإهمال لمسودات كتبه، رغم ان شيئا ما في تلك المحرقة يشبه اسلوب حياة الكاتب نفسه وتعجله لمفارقة حياة
لا يجد حتى مبررا لوجودها. لك الشكر على القطعة الفنية الكثيفة التي نتمنى ان تكون نواة عمل روائي قادم.