العروس للعريس … والجري للمتاعيس (1)

محاسن زين العابدين عبدالله
تظل أماني وأشواق السلام المفضي لإدارة التنوع وبناء دولة المواطنة هاجس كل وطني غيور. وقد ظلت محادثات السلام تتراوح صعودا وهبوطا على مدى عام كامل حاملا على جناحيه حلم الملايين بتحقيق السلام، وإنهاء حالة اللا حرب ولا سلم واستراحة المحاربين تحت ظل حكومة سودان ديمقراطي موحد.
عام لم تهدأ فيه المناوشات والمظالم حد السحل. فالصراع على الموارد الذي حل محل التعايش السلمي في بداية الثمانينات تطور بوتيرة عالية عندما دخلت فيه الدولة كطرف بسنها لقانون الدفاع الشعبي وتسليح المراحيل في العام 1987. تفاقم ليصبح صراع إثني سياسي وصراع تمكين مستثمراً العصبية القبلية الممتدة داخل وخارج الحدود بترتيبات من الحكومة الهالكة أدت إلى حرق القري وتهجير القاطنين وانتشار السلاح واستخدام كافة أشكال العنف بما فيها السعي إلى الإبادة الجماعية والعمل على تغيير التركيبة السكانية. شكلت التجارب و المظالم التاريخية استراتيجيات مرتدة قامت على الولاء العصبي القبلي والمناطقي . وتجزأت ذات الحركات إلى أكثر من 87 حركة بفعل العمل الاستخباراتي لأجهزة النظام البائد، ليست جميعها ذات وزن على الأرض.
بدء ذي بدء لابد من التأكيد على أن الأمن والسلم الاجتماعي يمثلان أهمية قصوى لإدارة التنوع وبناء دولة المواطنة وقد بدأت مفاوضات السلام وفي جعبتها الكثير من النقاط المحورية الإيجابية المتمثلة في الإرادة السياسية في تحقيق السلام ( الواقع الذي فرضته الثورة)، والدور المجتمعي الواعي المتمسك بشعارات الثورة الدور إلى جانب تدخلات القوى الخارجية بين إحلال السلام وبين إحلال سلام ممنهج.. وقد جاء تأسيس المبادئ العامة في كل اتفاق على الحقوق المدنية، ومن ثم الاتفاق على الحكم الفيدرالي (الإقليمي). كما أقرت الاتفاقات بالفصل بين المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة وملامسة كافة القضايا التنموية المطلوبة لتحقيق أوضاع معيشية مستقرة مثل الفقر والتعليم والصحة والعمل والقوانین والسلام والوضع الأمني والأمن الغذائي
فهل نجحت جوبا 2020 في الوصول إلى عمق المشكلة وفتح الجسور إلى حياة آمنة مستقرة. سأتناول هنا بعض المحاذير والمخاطر التي تحدق بالاتفاقية من نصوصها. ولابد من التأكيد أولا بإن انعكاسات التجارب السابقة كانت المسطرينة ( Bench mark ) لحركات المقاومة في المناطق الممتدة من دارفور مروراً بجنوب كردفان إلى النيل الأزرق : تجربة الجنوب ونيفاشا طرحت شعار الدوشكا هي سبيل لتحقيق المطالب. ومن ثم عدم استجابة قرنق لانتفاضة 85 واستمراره في حمل السلاح ضد حكومة الثورة (الدوشكا والمكاسب) وكان ذلك درساً أيضاً لجبهات المقاومة في مناطق النزاعات في عدم استجابتها لثورة الشعب في ديسمبر 2018 ( الدوشكا والمكاسب السياسية والمناطقية) ولاحقا انساقت الجبهة الثورية في ذات التيار على الرغم من توقيعها على ميثاق الحرية والتغيير ضمن قوى نداء السودان ومشاركة مندوبيها في المفاوضات إلا أنهم تراجعوا (سعي نحو تعظيم المكاسب – الاستقطاب – وتقاطعات المصالح).
بلغ عدد الاتفاقات سبعة اتفاقات شملت 5 حركات من مناطق النزاعات بالإضافة إلى موقعين عن مسارات الشرق والشمال والوسط.، وقد شمل التوقيع ممثلي خمس من الحركات الدارفورية لا يملكون جيوش على الأرض، لكن بلا لديهم تاريخ مقاومة ولديهم مناصرين واتباع، ولا نملك إلا أن ننظر إلي الجزء المليء من الكوب ونحسب هذه الخطوة في إطار المطالبة السياسية وليس في إطار صنع السلام الدائم، ايماناً بإن كل طريق يؤدي إلى السلم والتوافق هو أمر مطلوب يؤدي إلى توسيع العمل الجماهيري القاعدي ويشجع توافق المكونات الأقوى ( (الحركة الشعبية قيادة الحلو، حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد)) في إطار أن الطريق إلى السلام يبدأ بالسلم الاجتماعي. فكسب/ تامين جانب جزء من الفاعلين في عملية النزاع سواء كان فعل سياسي أو مقاوم هو جزء من المسار الطويل لتحقيق السلام. هذا الوضع يمكن أن يثمر فقط في حال ارتباطه ببنود اتفاق منصفة وعادلة تبتغي وجه الوطن. فعملية السلام عملية طويلة تتطلب صبر ومثابرة لتشمل جانبين: جانب تحقيق السلام وإيقاف الحرب واستتباب الأمن ثم الجانب الآخر وهو تحقيق السلم الاجتماعي بتحقيق التعايش السلمي بين المكونات المختلفة ورفع المظالم وهي المهمة الأصعب.
لقد كانت أولى الملاحظات هو إن إقحام مسارات ليست معنية بالنزاع او استخدام السلاح. بجانب إنه منح من لا يملك لمن لا يستحق فإنه يتضمن مسار خطر وبؤسس للتجزئة والعمل على تكريس المناطقية والعصبة القبلية، خصماً على التوجه الأسمى بالعمل في إطار عام يضم كل السودانيين دون تمييز سوا كان ذلك على أسس أثنية أو عرقية او انتماء جغرافي أو سياسي. وما يثير التعجب حقا هو الانتشاء لاتفاق تبنى مرجعية الترضيات الهادفة إلى الاحتواء دون تحسب لنتائجها. فالنصوص الغامضة والخبيئة تجسد واقع مرسوم بعناية لإحداث تغييرات مفصلية. هذا إلى جانب إن عقد اتفاق جزئي في غياب اطراف الصراع القوية والتي تمتلك جيوش وتسيطر على مواقع سيطرة إدارية وعسكرية كاملة ” الحلو ونور ” لن يحقق السلام المنشود. وسوف نحاول التطرق لمضامين اتفاقات جوبا 2020 ونتعرض لأكثر مراميها أهمية
في الإطار الظاهري جاءت الصياغة للاتفاقات فضفاضة وغير منضبطة وقابلة للتأويل. والاسترسال في النقطة أو الهدف الواحد في عدة بنود “حشو منمق غير قابل للقياس”. و استخدام الأفعال التقريرية التي لا تقود إلى نتيجة محددة ( مثال يدرك الطرفان بان وجود قوات اجنبية – ضرورة الدراسة للتوقيع على الاتفاقيات الدولية لحقوق الطفل والمرأة) وفيما يلي بعض أخطر الملاحظات على المستوى الكلي:-
- لقد صممت الوثيقة وهي تحمل تعديات على الوثيقة الدستورية، يتطلب تطبيقها تعديل الوثيقة الدستورية ، بينما الوثيقة الدستورية لا يجوز تعديلها إلا من قبل المجلس التشريعي وبتوافق ثلثي الأعضاء. فكيف تغاضي المتفاوضون عن نصوص الوثيقة الدستورية على علاتها؟ وكيف أنجر قادة الحركات وهم من عتاولة السياسيين لهذا الشرك والرضاء بالمكاسب الذاتية والآنية دون تحسب للمخاطر الناجمة عن خرق الوثيقة الدستورية.
- كما تتضمن الوثيقة تعديل على بنود في الوثيقة شملت تمديد الفترة الانتقالية لعام آخر (39 شهرًا) واستثناء أعضاء مجلس السيادة والوزراء في الفترة الانتقالية من الترشّح في الانتخابات العامة، ومنح شاغلي المناصب الدستورية في الفترة الانتقالية حق الترشح في الانتخابات العامة، وتخصيص 25 % من المقاعد الوزارية و25% لعضوية المجلس التشريعي لممثلي أطراف الاتفاقية ، وتخصيص 10% من الوظائف القيادية العليا في الولايات التالية: الشمالية، ونهر النيل، وسنار، والجزيرة، والنيل الأبيض، وشمال كردفان، وغرب كردفان.
- وبينما أقر الاتفاق الحكم الذاتي على المناطق خارج سيطرة الدولة والتي يديرها الحلو، فغن الحلو نفسه لا يطرح الحكم الذاتي، بينما يطرح الحل على مستوى القضايا الوطنية وليس الجهوية.
- نصت المادة 1.7 على الفصل التام بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدين في السياسة ووقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان وكريم المعتقدات على أن يضمن ذلك في دستور البلاد وقوانينها. وهو أمر جيد، لكن تظل الأسئلة قائمة حول تحديد مصادر التشريع
- لقد اتسمت المفاوضات التي استمرت على مدى عام كامل بالسرية مع عدم مشاركة القوى السياسي وأصحاب المصلحة والنساء النازحات والمهاجرات خلافا لنص القرار 1325 عن دور المرأة في السلام. ومن ثم جاءت المشاركة للنساء صورية باهتة في حفل التوقيع.
أما اتفاق الترتيبات الأمنية هو الأكثر إثارة للمحاذير وفيما يلي بعض مما جاء فيه مما يشكل مكامن للمخاطر
- الإقرار بكينونة الدعم السريع كقوة مسلحة قائمة بذاتها، إذ رسخ الاتفاق لشرعنتها دون أي التزامات … وتوضح النصوص أن كافة الالتزامات تصدر باسم القوات المسلحة ( نصت االما\دة 1 12 9 على إن مصطلح المؤسسة العسكرية يشمل الدعم السريع والقوات المسلحة) عدا ذلك تذكر كل منهما منفردة،
- تم التوقيع على اتفاقية الترتيبات الأمنية وشمل الحديث في بعض بنودها على كلام عام، فالحديث عن الترتيبات شمل المرحلة الثانية توقيع اتفاق وقف اطلاق النار، هذا الاتفاق تمت الإشارة إليه دون أن يشمل ضمن الاتفاقات السبعة الموقعة، كما لا توجد رؤية واضحة حوله على لرغم من أهميته.،.
- أشارت اتفاقية الترتيبات الأمنية إلى الإقرار في المبادئ العامة بدور للدعم السريع والأجهزة الأمنية في النضال ضد الحكم البائد، وهو نص يخلو من البراءة خصوصاً عندما يتصل الأمر باتفاق هو في حكم الدستور بحكم الحاقه به، وهو صك براءة ومنحة من أعضاء الجبهة الثورية الدارفوريين لقوات الدعم السريع من قتل رفقائهم وأنصارهم.
- تبرز بعض النصوص المبهمة والقابلة للتأويل، فإذا كان الوضع الطبيعي هو اندغام هذه الحركات في الأجهزة الرسمية على كافة المستويات مشكلة للحكومة (الدولة) فإن الاتفاق يظل يشير في كافة نصوصه إلى طرفان للمراحل ما بعد التوقيع. ( مثال: المادة تشير إلى ان قوات للاتفاق
- من أكثر البنود إثارة للمخاطر والمحاذير هو آلية حصر وتسجيل العناصر الدارفورية التي شاركت في المقاومة المسلحة. حيث سميت بعملية التجميع والدمج. وتكمن خطورة عملية التجميع الهادف للتسكين كقوة حكومية تابعة لأي من القوتين في عدة جوانب
- يبرز تعريف المقاتل الفوضى بانه أي شخص يحمل سلاح. هذا المقاتل يأتي بنفسه حاملا سلاحه ليسجل كمقاتل ثم يدرب لمدة أربعة أشهر ويدمج في إحدى القوتين القوات المسلحة أو الدعم السريع.حسب نص المادة 14 2 5 25 بينما نص الاتفاق على الحق في إضافة 15% بدون سلاح.
- وتعيين الضباط وفق معيار معرفة القراءة والكتابة فقط.، وهي عملية تحمل الكثير من سوء النية لانها عبارة عن تجنيد (recruitment)يفتح الباب للاستقطاب والجذب والتنافس على تمكين القبيلة، من ناحية من ناحية أخرى فإن معيار القراءة والكتابة هي ثغرة للمحسوبية والتقييم الشخصي،
- هذه الالية بلا شك هي تكريس للاصطفاف القبلي والعقائدي، وثغرة لدخول كتائب الظل بالباب. وفي العموم فإن هذه الالية ترجح موازين القوة فيها لصالح من يملك المال لشراء سلاح يمنحه لاتباعه للذهاب بأنفسهم وحمل السلاح للتسجيل كمقاتلين .
- مرحلة التجميع والدمج هي المرحلة الثالثة بعد استكمال مرحلتين أهمها اتفاق وقف اطلاق النار ، هذه المدة يضاف إليها النص علي استمرار عملية التجميع على مدى 45 يوما، وهي مدة كافية للتجنيد والاستقطاب من قبل أعضاء الجبهة الثورية والآخرين الذين لحقوا في اللحظات الأخيرة. وقد رشح في الميديا بعض من مظاهر الاستقطاب والتجنيد التي بدأت.
- يشير الاتفاق إلى عقيدتين للقوى العسكرية، فالمادة 33 6 4 تفرد للقوات المسلحة السودانية النص على اتباعها العقيدة العسكرية وفقا للسياسة التدريبية في الكليات العسكرية ومراكز التدريب. وفي إشارة أخرى تبني العقيدة العسكرية وفقا للدستور دون تحديد لجهة محددة. بينما يكتنف الغموض البند 5 1 33 الذي يشير إلى جيش يتبني عقيدة موحدة .
- ونص البند 11 5 33 على إصلاح القوات المسلحة لتكون ممثلة لجميع سكان السودان في عضويتها العامة وفي قيادتها على كافة المستويات. هذا النص طبق على القوات المسلحة ولم يطبق على الدعم السريع، ومن المخاطر التي تكتنف تفسيره إنه أشار إلى سكان السودان وهو نص يحتمل سكان السودان من جنسيات غير سودانية. كما تم وضع معايير لقوات الشرطة بحيث لا تنتمي لحزب او قبيلة او غيرها لماذا لم يتم وضع ذات الشروط لأطراف الصراع
هذا وإلى جانب أن إجراءات وقف إطلاق النار تؤسس إلى مرحلة جديدة من الجرجرة، بإطلاق بنود عامة وغير حاسمة وبالنص على اتفاقية لم توقع ولم يحدد لها وقت تبدو من المحاذير التي تؤدى إلى التطويل قبل الدخول في مرحلة التجميع والدمج.
ن اضطلاع حميدتي بالية السلام يبدو أمراً شائهاً. حيث كرست الاتفاقية لشرعنة قواته وتمكينها، وخلق قوة جديدة من الحركات التي يتحالف معها من جهة أخرى، إذ تتساوى الفرص في إلحاق المقاتلين الذين يتم تجميعهم وتدريبهم في كل من القوات المسلحة والدعم السريع وهي بلا شك خطة جهنمية لتمكين الدعم السريع ( فاذا تحرينا إمكانيات الدعم السريع صاحب المال والامتيازات المغرية فإن الدعم السريع والحركات التي يبدو للعيان أنها ستتحالف معه ستكون هي الصاحبة الكسب الأكبر. وهو امر بالغ الخطورة على القوات المسلحة والعقيدة العسكرية وعلى امن الوطن. ويتضح الذكاء في التدابير المتخذة إذ أن جعل الاتفاق ملحقا للوثيقة الدستورية يمنحها الشرعية الدستورية، لقد استفاد حميدت من الدرس السابق بسد الذرائع الواردة قبلا في المذكرة التفسيرية لوزارة العدل في 23 أكتوبر 2016 بعدم دستورية قانون الدعم السريع وانتهاكه لقانون القوات المسلحة وانتقاصه من سيادتها وسلطتها العسكرية وولايتها على السلاح والقوة المسلحة.
إن طبيعة قوات الدعم السريع القبلية والقائمة على التمكين الأسري وتوزيع الرتب العسكرية دون ضوابط مهنية وجدارات يعد خرقا بالغ الخطورة، تنعكس مؤثراته سلبا على القوات المسلحة النظامية وعقيدتها العسكرية، ويخلق تمييز يدعو إلى الفرقة والفتنة. بالإضافة إلى المنضمين من تابعي الحركات الموقعة القائمة على المناطقية والقبيلة. كل ذلك يقود إلى الاصطفاف القبلي، ويزيد من مخاطر الفشل في إدارة التنوع وبناء الدولة ويهدد التماسك والنسيج الاجتماعي.
هذا التحليل يستند إلى ما كان والواقع الحالي، فالواقع السوداني كان مستندا على التعايش السلمي والسلام، بينما أسفرت مؤثرات سياسة النظام الهالك واستغلاله للقبلية والمناطقية ما نشهده اليوم من صراعات كما أن التجارب في المنطقة تؤشر إلى مآلات من الأسوأ. فالتجربة اللبنانية القائمة على الطائفية كانت انعكاستها كارثية ونجم عنها صراعا مستديما في لبنان وفشل في إدارة التنوع
ولم ينسى قائد الدعم السريع أن يؤمن موقفه وموقف رفقائه فأشارت اتفاقية الترتيبات الأمنية إلى العفو العام عن لجرائم المرتكبة، والعفو عن جرائم الشرف والأمانة
محاسن زين العابدين عبدالله