
عثمان يس ود السيمت
(الحلقة الأولى)
من الموجع والمحبط جداً أن نكتب مثل هذا المقال في الذكرى الرابعة لقيام أعظم ثورات المنطقة ، بل واحدة من أعظم ثورات العالم التي تابعها وأشاد بها وشهد لها العالم وانتقى لها أيقوناتها ، وتأتي ذكراها الرابعة ونحن نجلس مع ذات العسكر الذين ثرنا ضدهم وذات النظام الذي ثرنا ضده وذات الممارسات التي دفعت الشعب للقيام بالثورة. ولكن مهلاً ، فالذين يجلسون مع العسكر ليسوا من قام بالثورة والذين يصوغون اتفاقات الخذلان ويدبجون سيناريوهات التنازلات من قبيل (ما لا يدرك كله لا يترك جله، وما هو الحل ، وفلاسفة السياسة الذين صاروا بقنعون الناس أن لا سبيل لاستلام السلطة من العسكر إلا من خلال مفاوضات مع العسكر وان البديل صراع دموي وحرب أهلية). هذه السفسطة السياسية لا علاقة لها البتة بثورة ديسمبر ولا علاقة لها بحلم يريدون منا أن نتناساه أو أن يحيلوه إلى كابوس فننساه. هنا لابد من أن أصطحبكم في رحلة قصيرة عبر ثوراتنا الثلاثة لكي تعرفوا كيف تسرق منا ثوراتنا دائماً . وكيف نصنع أعظم الثورات ثم نلقي بها في مكب النفايات ، رحلة قصيرة فيها عبرة لمن يعتبر وسأوردها بأسلوب علمي يتجنب العبارات السياسية والبهرجة اللغوية:
جاء حكم العسكر الأول في 17 نوفمبر 1958م بدعوة وإلحاح من الحكومة (الحزبية) الشرعية المنتخبة القائمة وهي حكومة حزب الأمة برئاسة عبدالله خليل . استمر حكم العسكر بقيادة المجلس العسكري العالي برئاسة عبود لمدة ستة سنوات وقامت ثورة 21 أكتوبر وأطاحت به. فمن جاء بعد عبود؟ جاء سارقوا الثورات من الأحزاب التقليدية (ذات الأحزاب التي جاءت بحكم عبود) لتنادي بإنتخابات عامة (على عجل) والثوار في الشارع ينادون بشعارات الثورة ولمًّا تجف حناجرهم ليجدوا العملية الانتخابية تدور (دوائرها ورحاها) بعد أقل من ستة أشهر من نجاح الثورة ، وتأتي انتخابات ناقصة لم يشارك فيها الجنوب وقالوا لا بأس وقاطعها ثالث أكبر الأحزاب (حزب الشعب الديموقراطي) وقالوا لا بأس ، ولم تراقب عملياتها من سجل انتخابي وتقسيم دوائر وترشيح وتصويت وفرز وقالوا هذا ما نريد وقد وصلنا لما نريد وورث حكم الأحزاب التقليدية التي جاءت بعبود ورث حكم عبود وضاعت ثورة أكتوبر (تحت الرجلين).
ثم جاءت ثورة أبريل التي ثارت على نظام عسكري (نظام مايو) وجاءت به هذه المرة الأحزاب التقدمية الاشتراكية والشيوعية والعروبية. وثار الشعب في أبريل بعد مايقرب من 17 سنة ليطيح بنظام مايو لتنهض ذات الأحزاب التي جاءت به متعاونة مع الأحزاب التقليدية (فهم دائما يتعاونون على الإثم والعدوان) ، فقد تداعوا في اجتماعات دار الموظفين لينفذوا نفس سيناريو أكتوبر ، (انتخابات مبكرة بعد أقل من سنة من نجاح الثورة لتأتي بنفس الشخصيات التي كانت البارحة في اللجنة المركزية للإتحاد الاشتراكي (حزب نميري الواحد) كانوا جميعاً فيه فدخلوا البرلمان المنتخب قبل أن يتذكر أي منهم أنه ومن باب ذر الرماد على العيون كان عليه أن يتقدم باستقالة (صورية) من ذلك الاتحاد الاشتراكى ، لاقبل ولا أثناء ولا بعد الثورة ولا بعد الانتخابات أيضاً فكانوا قانونياً أعضاء في الاتحاد الاشتراكي والبرلمان المنتخب أيضاً ، تماماً كما كان وكما سيكون نفس أعضاء مؤسسة الرئاسة للبشير وأركان نظامه من أبناء السادة رؤساء الأحزاب (الكبيرة) وأمراء الحرب من الحركات المسلحة، نعم هم نفس من يتفاوض ويحكم انتقاليا ومن وقع وسيوقع مع العسكر (إن دعى داعي التوقيع) . وهكذا سرقت ثورة أبريل بذات الطريقة من سارقي الثورات وبذات الغفلة من صانعي الثورات . وفي كل مرة تكون الحجة (يجب أن تكون هناك حكومة منتخبة تستلم السلطة) . هذه المرة تلقفوا شعار المدنية وقالوا حكومة مدنية وكأن المدنية جلابية وتوب وعلى الله وبنطلون.
الآن هل أدركتم لماذا يصر البرهان (هذه المرة) على حكومة مدنية منتخبة (ليسلمها السلطة) ، لقد أدرك العسكر أن سارقي الثورات سيكونون دائما في الخدمة وجاهزون لتلقي الأوامر وقراءة التراتيل الجنائزية أو الفاتحة عندما يحين موعد دفن الثورة. وقتها لن تكون هناك محاكمات فهي لم تحدث من قبل . ولن تكون هناك مساءلات قضائية عن الدماء فذلك لم يحدث من قبل وسيسهل جداً على من يكون هذفه الحكم (وليس له هدف آخر) أن يتخلى عن ما لايملك وهو تلك الثورة التي يتشدق بأنه يمثلها ويجلس مع عسكرها (لتنفيذ ما يملون وما يكتبون) سيتخلى عن الثورة لمن جاءت الثورة وقامت لإسقاطهم . نعم هكذا لأن الفائز في الانتخابات القادمة التي ينادي بها البرهان لتسليم حكومتها (المدنية) السلطة سيكون الفائز هو المؤتمر الوطني بأصله وكامل فروعه ، ومن لا يدرك هذه الحقيقة فليسارع للطبيب النفسي للعلاج من الزهايمر والإدمان على ما حقن به من مخدرات تغييب الوعي السياسي وتغييب الإدراك بالخطر المحدق بالثورة . وعندما يأتي المؤتمر الوطني (بانتخابات حرة ونزيهة بتعريف العسكر للحرية والنزاهة) عندها سيكون البرهان وعسكره قد طافوا طواف الوداع ولم يبق لهم في مكة مقام وسينطلقون في رحلات العودة سالمين آمنين غانمين قد قضوا تفثهم وأوفوا نذورهم . ولن يكون لدى المجتمع الدولي من سبب يمنعه التعامل مع الحكومة (المدنية المنتخبة) وسيرحل فولكر تاركاً خلفه بلداً تعود بل أدمن على القيام بالثورة ثم وأدها.
كيف تطارد حلمك ياثائر هذه المرة قبل أن تحقق طغمة سارقي الثورات (بالتفاهم) مع العسكر حلمها هي بوأد الثورة. كيف تلتف عليهم قبل أن يلتفوا عليك. تذكر فقط أن جميع الثورات التي وئدت في تاريخنا السياسي بعد الاستقلال كان السبب في سرقتها وموتها هو (فشل الثوار في تشكيل تنظيم سياسي يقوم بتنفيذ أهداف الثورة) وهذا سيكون موضوع الحلقة الثانية من طارد حلمك ياثائر. لكن أذكرك بما حدث في مونديال 2022م في قطر وهو أنجح مونديال في تاريخ كرة القدم:
تكالب دعاة الفشل في كل العالم ضد قطر وخذلوها ونجحت قطر لأنها طاردت حلمها وأمسكت به ولم تفلته.
هزمت الأرجنتين بطلة المونديال في أول مبارياتها من فريق لا يقارن بهم (مع الاعتذار للسعودية) ولكنهم طاردوا حلمهم وأمسكوا به وعضوا عليه ولم يفلتوه.
لم يقتنع ميسي بعد الهزيمة من السعودية بأنه سينهي مشوراه دون الحصول على كأس العالم وقد حقق كل البطولات المحلية والقارية. طارد حلمه حتى أمسك به وحققه (أقول ذلك بصرف النظر عن من أشجع ومن كنت أتمنى أن يفوز) لكن ميسي لم يقتنع بأنصاف الحلول كما يفعل الجالسون مع العسكر يحلون للشعب المسكين الذي (طالت معاناته) يحلون له (مشكلته) . والكورة ليست كالسياسة بالضرورة فجيلنا هذا لن يكون كميسي بالضرورة يريد أن يتنحى وفي حضنه كأس العالم . نحن يجب ألا نستسلم ونطارد حلمنا لنترك للجيل القادم فرصة أن يحتضن كأس العالم.