
بعد معاناة ممتدة، وصبر طويل أسقط الشعب المناضل حكومة الإنقاذ ،وخلع رئيسها ، وانتظمت البلاد كرنفالات الفرح ، واتسعت مساحات الأمل لبناء سودان جديد.
لكن المتابع للوضع لحد الآن من عمر الفترة الانتقالية يجد كثيرا من الإخفاقات ، وقليلا من النجاحات.
لا يشك أحد في نزاهة وزراء الفترة الانتقالية ، ولا يزايد أحد في انتمائهم للوطن ، ولا يختلف اثنان في رغبتهم في فعل الخير لهذا الشعب الصابر ، لكن لا تنهض الأوطان بالنوايا الحسنة، إن لم يتبعها عمل جاد، وجهد دؤوب.
نجحت حكومة الفترة الانتقالية في إعادة السودان لدائرة الاهتمام العالمي ، ونقلت قضاياه لتكون في مقدمة أجندة اجتماعات الدول العظمى ومؤتمراتها.
كما نجحت- إلى حد كبير – في إسكات صوت البندقية ، وإخماد نار الحرب في أطراف البلاد .
وكذلك نجحت في إعادة الثقة للمواطن السوداني في نظافة أيدي وزراء حكومته ؛ إذ شاهدنا وزراء نزيهين لا يرتعون في المال العام.
كما نجحت في غرس إحساس داخل المواطن بأنه مهم جدا لدى حكومته ؛ حيث وجدنا وزراء يقدمون رسائل اعتذار حال إخفاقهم في مهمة ما ، وهذا فهمٌ جديد ، قد هرمنا من أجل أن نشهده.
فعلى الشعب أن يضطلع بدوره في دعم الحكومة ، وليبتعد التجار عن الجشع وزيادة الأسعار ، وليمتنع الجميع عن الاحتكار واستغلال الأزمات ، وليتوقف المواطن عن الاعتراض بشكل همجي على كل القرارات ، ولينهض الجميع- كلٌّ في مجاله- لخدمة الوطن ورفعة البلاد ، ومنع تعويق المسيرة.
لكن لو نظرنا من زاوية أخرى، فإن جميع القضايا الحياتية المعيشية التي تضمنتها أهداف الثورة ومطالب الثوار لم يعالَج منها شيء ، فما زالت الأزمات تطحن محمد أحمد الغلبان ، فالمواطن يلهث طوال يومه من صف لآخر ، ويتنقل من معاناة لأخرى ، وقود وخبز وكهرباء ومياه وغاز ومواصلات و غلاء طاحن…
فليلتقط وزراء تلك الحكومة هذه الفرصة الذهبية التي منحهم إياها الشعب بصبره وتحمله ،فبعض الفرص لا يأتي مرتين ، وليكونوا فطنين في أن يقصّروا أمد تلك المعاناة ، فالشعب حليم وصبور، ولكن يريد أن يرى جهدا بيّنا ، وعملا واضحا .
ولكن ،مهما طحنت الأزمات ذلك الشعب فلن يحنّ المواطن لعهد الاستبداد ، ولن يشتاق إلى زمن الاستعباد ، ولن يقول: آسفين يا ريس ، فقد استمتع برائحة الحرية، ولكنه يريد أن يستنشق رائحة الخبز أيضا، فكما أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ،كذلك ليس بالحرية وحدها يعيش الإنسان.
رغم إيماننا بأن الحكومة الانتقالية تسلمت بلدا متهالكا، وخزينة خاوية، وثروات منهوبة ، ورغم أن التحديات التي واجهت تلك الحكومة لا قِبل لأحد بها ،ولكن يريد المواطن أن يرى جهودا ملموسة ،فعلى وزراء الفترة الانتقالية أن يتخلصوا من كل معوّق يكبّلهم ، فلن يقتنع المواطن بتثبيط المكون العسكري ،ولن يقتنع بعرقلة الدولة العميقة لمساعي الحكومة الانتقالية ،ولن يقتنع بأن فيروس كورونا منع توفير الخبز وضخ الوقود في المحطات.
على الحكومة الانتقالية عدم الركون لمؤتمرات المانحين وتجمعات الداعمين ، فلنأخذ منها الجانب المعنوي، فجميل أن تجتمع كبريات الدول لتتحدث عنا ، ولكن كم من مؤتمر عُقِد في العالم ،ولم يصل للدولة المدعومة من مخرجاته شيء :” العراق، فلسطين ،اليمن …” والقائمة تطول …
ينتظر المواطن من الحكومة تشديد الرقابة بتكليف عدد من النظاميين الوطنيين بمتابعة توزيع المواد “وقود ، دقيق …” من المستودع إلى أن تصل للمستهلك ، والأخذ بيد كل من يعبث بقوت الشعب بعقاب رادع علني ؛ حتى يكون عبرة للآخرين.
كما ينتظر المواطن من الحكومة تكثيف الجهد لمنع التهريب الذي نخر جسد الاقتصاد الوطني ، وعقاب المهربين بأقسى العقوبات العلنية.
أجد أن حكومة الفترة الانتقالية تنشغل بقضايا قد تكون انصرافية على الأقل في الوقت الحالي، وأعتقد ان الحكومة تعاني من خلل في ترتيب الأولويات ، فمعاش الناس كان ينبغي أن يكون مقدما ،وكان ينبغي اختيار الوزراء المعنيين بذلك بدقة متناهية ، حتى تثمر جهودهم ، وتصل نتائجها إلى بيوت الغلابة.
أضاعت الحكومة جهدا ووقتا في مفاوضات سلام لا نتائج ملموسة لها ، يفاوضون قادة الحركات الذين لا يهمهم كثيرا حال مناطقهم ،بقدر ما يهمهم أن تسفر المفاوضات عن تحقيق مكاسب شخصية لهم تتمثل في المناصب ، فكلهم يرضى من الغنيمة بالمنصب ، ولا يهمه تنمية منطقته ولا سعادة قاعدته.
ما زالت جميع مفاصل الدولة تعج بمؤيدي النظام السابق ؛ إذ لم يشملهم التغيير، وإنما كان التغيير في قمة الهرم فقط ، هؤلاء يعطلون مسيرة العمل، ويعرقلون قطار التنمية ، فلمَ التأخير في تنظيفهم؟!.
تأخر تعيين الولاة المدنيين كثيرا ، فكيف بحكومة مدنية تُحكَم جميع ولاياتها بحكام عسكريين طوال هذه الفترة ؟! وبعد إعلان التعيين أرجو من المواطنين الصبر على الولاة ؛ حتى يروا ما في جعبتهم ،ولا يكون الاعتراض ابتداءً ، فلننتظر جهودهم ونرى عملهم ثم نعترض إن ثبت لنا عكس ما ننشد.
كما تأخر تشكيل المجلس التشريعي كثيرا ، فكيف بحكومة ديمقراطية لا يوجد لها برلمان يشرع ويحاسب …
تأخرت الحكومة في إجلاء العالقين ، ربما يعد السودان آخر دولة أجلت رعاياها العالقين خارج البلاد ، لتضارب التصريحات واختلاف القرارات ، وبطء عمل السفارات؛ مما ضاعف من معاناة المواطن العالق خارج الوطن، وما زال هناك أعداد كبيرة عالقة في الخارج.
طالت فترة منع السفر بين الولايات ، وفُتح السفر بشكل غير مشروع ،وتمنح التصريحات لغير مستحقها، وتجد السيارات الخاصة تحمل الركاب علنا، وبأسعار فكلية أرهقت المواطن المضطر.
أصبحت حدودنا مستباحة من جميع جهاتها ، وتُخترق من مخابرات الدول المجاورة ، ويعبر خلالها المتسللون في الاتجاهين دون رقيب.
الطابع الرئيس لهذه الحكومة هو البطء السلحفائي في جميع المجالات ، فالوطن في سباق مع الزمن ، وجرحه يتسع، وإن تباطأت جهودكم هكذا، فسيصعب اندمال هذا الجرح ، بل قد تتفتق فيه جراحات أخرى.
للأحزاب المنضوية داخل قوى إعلان الحرية والتغيير ، وغير المنضوية ، دور كبير في تباطؤ إيقاع هذه الحكومة ، فالخلافات تضرب بينهم ، والتردد في اتخاذ المواقف ، والتثبيط المستمر و التأرجح بين الانسلاخ و العودة.
بطء في اتخاذ القرارات ،بطء في تنفيذ القرارات، بطء في معالجة الأزمات، بطء في شغل المراكز المهمة ،بطء في استباق الخطوات؛ مما أسهم في حدوث مزيد من المشكلات ، بطء في محاكمة عناصر النظام السابق ،بطء في كل شيء…
رُفعت رواتب الموظفين – وهذا أمر مميز- لفئة ظلمت كثيرا في جميع العهود السابقة ، لكن هل تتوافر التغطية لفترات طويلة لهذه الزيادات الكبيرة وغير المتدرجة ؟ خاصة في حال ضعف الإنتاج ، وقلة الصادر أو انعدامه ، وتراجع العملة الوطنية ؟ وأليس من الأجدى – بدلا من زيادة مرتبات وتحسين معاش فئة دون أخرى – أن تقام مشاريع يعود نفعها للجميع دون تخصيص فئة معينة . فالبلاد ليست كلها موظفين.
تنعقد جلسة محاكمة مدبري انقلاب 89 ، وترفع الجلسة الأولى بسبب طلب مزيد من التدابير ، أمَا كان أوْلى بمعاينة القاعة قبل موعد المحكمة ، أما كان أولى أن يقوم القضاء بحصر تقديري للسعة الاستيعابية للقاعة، ومقارنة ذلك بالحاضرين المفترضين ، حتى لو لم يحدث ذلك ابتداءً ، وبدأت الجلسة أما كان أولى أن يُخرَج العدد الزائد؛ حتى تنعقد الجلسة ،وتكتمل حيثياتها.
معظم المؤتمرات الصحفية التي يعقدها رئيس الوزراء ينقطع فيها الصوت وتهتز الصورة وتضعف الإضاءة ، ألا ينبغي أن يتبع ذلك تقصي لمعرفة من الذي يسعى لإحراج رئيس الوزراء أمام العالم؟
أغلقت الجامعات بسبب جائحة كرونا ، ولم تقدم الحكومة بديلا ، لا توجد دولة في العالم عطلت جامعاتها بهذا الشكل المفتوح ، كل الدول قدمت بدائل مقترحة، وتعاملت مع المشكلة بناء على هذه البدائل ، فالحكومات الناجحة لابد أن تعد خططا بديلة ، والآن الأسئلة التي تحير الطلاب وأسرهم : متى ستستأنف الدراسة؟ ، وإن حدث ، فهل يكون ذلك حضوريا أم عن بعد؟ ، وإن حضوريا، ما الاحترازات التي أعدتها الحكومة؟ وإن كانت عن بعد أما كان من الأول أجدى؟ ، على الأقل، ليستفيد الطلاب من وقتهم السابق بدون إضاعة شهور ممتدة من عمرهم؟ وإن كان عن البعد ، فهل تتحمل البنية التحتية لشبكاتنا المتهالكة ذلك الأمر ؟ وأي نوع من الخريجين ستستقبل بلادنا بعد هذه الانقطاعات المستمرة؟
حدث إعفاء لعدد من الوزراء لم يرض بها قطاع كبير من الشعب السوداني، لأنه يرى بعين بصيرته أنهم عملوا واجتهدوا ، ونجحوا حتى لو كان نجاحا محدودا ، ورئيس الوزراء يقول إن الإعفاءات تمت بناء على تقييم أداء الوزراء ، أما كان أجدى – ونحن في زمن الشفافية المطلقة- أن يطلع المواطن على آلية التقييم ؛ حتى يرضى ويقتنع من كان رافضا ؟
ومتى سيكون تعيين الوزراء الجدد، في الوزارات التي يشغلها وزراء مكلفون حاليا؟
يبدو أننا سننتظر كثيرا حتى نشاهد الوزراء الجدد ؛لأن البطء هو الطابع المسيطر على حكومتنا .
لا أحد يشكك في كفاءة رئيس الوزراء ، ولا في وطنيته ، ولكن أظنه محجوبا ببعض المستشارين الذين لا يوصلون له الحقائق كما ينبغي ، ولا يعكسون له الواقع المر الذي يكابده المواطن.
نحتاج حكومة ميدانية ،لا يفصلها عن المواطن أحد، نحتاج حكومة معالجات فورية، وهذا ينبغي أن يكون طابع حكومة الثورة ، ففي زمن الشرعية الثورية لا يمكن أن يسيطر البطء على معالجة الأزمات، ولا على المحاكمات ،ولا على شغل المناصب …
ما زالت الذهنية القديمة مسيطرة على بعض الوزراء ، فهم يعملون في نظام جديد، لكنهم يسيّرون عملهم بتلك العقلية البائدة، فمازالت كثير من المعوقات توضع أمام المستثمرين وما زال كثير من الوزراء يعرقلون كل طرح لتحسين الأداء .
وما زالت الحكومة المركزية – كما كان في العهد البائد- ترى أن السودان هو الخرطوم ، وتهمل -عمدا أو سهوا- بقية الولايات ، وهكذا سنعود للمربع الأول الذي يتحدث عن التهميش ، فلا نجحت الحكومة في توفير احتياجات المركز ،ولا احتياجات الولايات.
هنا وجد المواطن نفسه مواجَها بالأزمات دون ساتر له من مسؤول ، فلجأ للاعتصامات ، فالآن تجد الاعتصامات انتظمت جميع أنحاء البلاد ، اعتصامات تطالب بحل المشكلات التي يعاني منها المواطن ، وساعتئذ تهب الحكومة لزيارة المعتصمين ،وتعد بحل مشكلاتهم ! ولو حدث ذلك من البداية لكان أجدى نفعا ، وأفضل مردوداً.
لقد اضطررتم الشعب لأن يأخذ دنياه غلابا ، ولكن الشعب –مازال – يتحلى بروح الثورة ، ويوصل مطالبه بتلك الطرق السلمية على شاكلة الاعتصامات بدلا من أن يحمل سلاحا ويتمرد كما كان سابقا ، فلتستغل تلك الحكومة هذه الثقافة الشعبية الجديدة ، وتمنع عودة الأمور إلى الوراء.
على الحكومة ألا تعوّل على أحد ، وأن تلجأ لاستغلال مقدرات البلاد وتوظيف إمكاناته في الزراعة والمعادن والثروة الحيوانية ؛ فتلك الثلاثة –إن صدق العزم- كافية لأن يعيش محمد أحمد حياة كريمة ، وأن يكون السودان ماردا قويا يخشاه الجميع ، ولا يحتاج إلى أن يمد يده للمعونات والهبات ،كما قال رئيس الوزراء في كلماته الأولى عقب تولي منصبه .
فليستمع الوزراء للرأي الآخر ، ولابد من التناصح لتحسين المسار، وكما قيل : لا خير فينا إن لم نقلها ،ولا خير فيكم إن لم تسمعوها.
طارق يسن الطاهر
[email protected]