محمود..فرح الوجدان ..ودمعة العيون ..!

محمد عبد الله برقاوي
الساحة الفنية السودانية وعلى مدى المائة عام الأخيرة التي تشكلت فيها ملامحها في مسيرة إرتفاع بنائها العمودي والأفقي الذي استند على قاعدة الحقيبة الثابتة الأرضية ..ومن ثم تدرجت في علوها الحداثي حتى بلغت مستواها الحالي من التميز والتنوع ..فأنجبت خلال ذلك المشوار الطويل عمالقة في شتي ضروبها شغلوا الناس في حياتهم وخلدوا أيضاً بماتركوه من إرث رسخ في ذاكرة وجدان كل الأجيال المتعاقبة ! إلا أن ظاهرتين جماهريتين إختلفتا في كيفية شقهما لصفوف الذين سبقوهما من الكبار ، من حيث البناء الشكلي والمظهري ..وفي نمطية غنائهما بالقدر الذي جعل الأستاذ الراحل محمد وردي على ضخامة حسه و إرتفاع قامته الفنية أن يقر باستاذية الأول له وهو الراحل الأستاذ ابراهيم عوض.. ثم يقر من بعد خمسين عاما ً من ظهور الفنان الذري ورغم صراحة ومباشرة رأى وردي وتحفظه على الكثير من الفنانين الشباب ..ولكنه قالها صريحة ..إن محمود قد صار فناناً كبيراً رغم قصر مسيرته وصغر سنه قياساً الى العمالقة الذين إخترق للوقوف الى جانبهم كل الصفوف التي سبقته أو جاءت من بعده ..ثم نصحه وردي بأن يحافظ على جماهيريته من خلال إحترام فنه بكل ما تحمل الكلمة من معان ٍ، ويالها من نصيحة وياله من ناصح وليت الفتى قد إستوعب النصح قبل فوات الأوان عليهما الرحمة ولكن لكل أجل ٍ كتاب !
رغم حضوري لعدد من حفلات محمود المشهودة جماهيرياً حقيقة خارج السودان !
لكن موقفاً كبيراً شهدته حوله و معه هزني وأذهلني في ذات الوقت .. حينما دعينا في عام 2004 من قبل ولاية الجزيرة ووزارة الثقافة فيها لحضور حفل تكريم نجمي ود مدني الفنانين ..صديق سرحان وصديق متولي بعد قرارهما العودة للإستقرار بالوطن من غربة متقطعة !
حضر جميع الفنانين وكلهم نجوم مرموقين الى الفندق الذي أعد لإقامتنا ..ومن ثم تحركنا الى مسرح الغرفة التجارية الفسيح وكانت بداية البرنامج عقب صلاة الجمعة مباشرة !
لكن محمود الوحيد الذي لم يصل رغم أنه قد أبلغ اللجنة المنظمة بتحركه من الخرطوم في منتصف النهار..!
عدنا في إستراحة لتناول الغداء بالفندق عند الخامسة وتلفتنا ولم نجد محمود.. بدأ الشك ينتاب منظمي الحفل ..حينما إنقطع الإتصال به تماماً عند منطقة الحصاحيصا وباءت كل المحاولات بالفشل حيال هاتفه المغلق !
حينما عدنا بعد الأستراحة عقب المغرب مباشرة ..وجدنا مالا يقل عن الثلاثة آلالاف من جنسي الشباب يرفضون الدخول الى باحة المسرح التي إحتوت عدداً مماثلا إلا إذا تأكد قدوم محمود..!
جاء بعض الرسميين لتشريف الحفل إنابة عن الوالي الذي صرفه أمر آخر عن الحضور شخصياً..لكن لم يشعر بدخلوهم او خروجهم ربما إلا اللجنة المختصة !
بدأ القلق يخنق المسرح عندما أنهى آخر الفنانين فقرته عند التاسعة .. ويزداد التوتر تصاعداً والجماهير داخل المسرح بدأت تفور جراء الجلبة التي أحدثها الشباب المعتصمون عند الدخول بالخارج !
وفجأة إنفتحت الأبواب على مصاريعها وكادت أن تتحطم وتقافز المئات من فوق السور .. ومحمود يدخل من موقف سيارته مخفوراً باكثر من عشرين شرطياً ، من شدة التدافع الجماهيري حوله ليمكنوه من الوصول الى خشبة المسرح .. وتصاعدت هستيريا الجمهور بالهتاف وقد ضاق به المجال الفسيح رغم أن الجميع كان وقوفاً .. وصدح الفتى بصوته القوي الآخاذ وشدا غناءاً رائعاً خاصاً به ومن عيون الغناء السوداني البديع على مدى ساعتين متصلتين دون توقف .. وبذاكرة حديدية في التعاطي مع الكلمة مخارجاً وتنغيماُ و انسجاماً مع الزمن الموسيقي وبتناغمٍ فريد !
اليوم تمر ذكرى رحيل ذلك الإنسان والفنان الطيب الأبيض السريرة والضمير كما الطفل الرضيع ، حتى حينما كنت أعنفه خلف الكواليس عن تأخره الذي كاد أن يخلق أزمة قد لاتحمد عقباها ..فيرد بعفويته الحبيبة .. يا أستاذ أنت تعلم أن الظروف أحياناً تجعل من الواحد ..
( رمة شوية )
ويرتمي في صدري ضاحكاً وأنا أنهاه بعدم نعت ذاته بتلك الصفة ..بينما أطّيب خاطره بأننا نريده فناناً دائماً كبيراً ومحبوباً في نظر جمهوره الغالي !
وحقاً مثلما دلق محمود عطر الفرح في وجدان جمهوره الذي حمله على الأكف بالملايين الى مثواه الأخير في يوم رحيله المبكر..هاهو يخلد في العيون دمعات تتقطر في ذكراه الأولي .. وهاهي جماهيره التي تسمت بالحواتة تيمناً به وعرفناً له وتخليداً لذكراه تحتفل هذه الجمعة بنادي الضباط بالخرطوم بمرور هذه المناسبة الحزينة .. فتدلق على قبره قطرات من عطر ذلك الوجدان الذي تركه في النفوس المحبة له .. وتذرف عليه دمعة لن تجف من العيون التي تحتضن صورته المرسومة فيها !
له الرحمة والمغفرة وحسن الثواب..وحقاً فإن الذي يحبه الناس لا يموت أبداً وإن رحل جسداً !
وإنا لله وإنا اليه راجعون .
[email][email protected][/email]