داود مصطفى.. مسيرة حافلة مع الصحافة والفنون.. رحلة كفاح

الخرطوم – زهرة عكاشة
تمر الأيام من بين يدينا دون أن نحس بها أو نعيرها أدنى اهتمام، هكذا مرت أيام داود مصطفى وتسربت من بين يديه، وأعلنت عن خاتمتها دونما استئذان، وكم أبكى وأدمى قلوب أصدقائه وأحبابه من قبيلة الصحفيين، ولاسيما أن الدنيا لم تمهله عدة أشهر فقط ليحتضن صغيره الذي أقبل للحياة ليحمل اسمه ويبقيه في الدينا قدر سيرته التي تحدث عن نفسها.
أما نحن، فنعتز ونفتخر ونقف إجلالاً لذلك الرجل الذي قدم وأفنى حياته بصدق وأمانة من أجل المهنة وإرساء دعائم الإخاء ودفع التعصب الرياضي جانباً مقابل المهنية والكلمة الرصينة التي أبقته وستبقيه بين الأكرمين.
في الديوم
هو من قبائل التداخل، التي اتخذت من السودان مستقراً لها قبل مائتي سنة، بعد أن كانوا يتوافدون للسودان كدولة مرور لأداء فريضة الحج، فقد كان يستوجب السفر براً للوصول لمكة المكرمة، واستوطنوا السودان وأشعلوا نار القرآن عبر الخلاوى المتفرقة في عدة مناطق، وكانت منطقة الديوم وعشش فلاته تعج بالخلاوى وحفظ القرآن. يقول هيثم السيد مسؤول المكتب الصحفي بقناة النيل الأزرق: “إن داود رغم ذلك سوداني، عاش وسط أهله في حي الديوم وعشش فلاتة الشعبية (النزهة حالياً) منذ لحظة ميلاده في العام (1958)م، نشأ وترعرع فيها وسط أسرته الصغيرة وإخوانه أحمد وعبد القادر وإبراهيم وخديجة وعائشة وأم كلثوم، وكان حياً زاخراً بالفنانين، ويضج بخليط من الفنون كالغناء والموسيقى والسينما، وهي منطقة مفعمة بالحياة تبدأ بالخلوة في الصباح الباكر وتنتصف بلعب الكرة، وتنتهي بجلسات نجوم الفنانين والاستمتاع بأصواتهم مساءً”.
الدراسة والعمل
حفظ القرآن في الخلاوى ودرس الابتدائي والوسطى بمدارس كمبوني بالخرطوم. أما المرحلة الثانوية فكانت بمعهد صلاح (مدرسة النيل حالياً)، وتخرج في جامعة السودان للعلوم والتكنلوجيا كلية التصميم الإيضاحي، ولج داود أبواب الصحافة منذ العام (1985)م بواسطة الأستاذ الراحل سيد أحمد خليفة، وكان ذلك بعد نيل شهادته الدراسية من كلية الدراسات الإضافية بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، فكان أول تعين له خطاط ومخرج صحفي وكاتباً بجريدة (صوت الأمة) ثم انتقل إلى جريدة (الكورة)، وعمل في عدد من الصحف الرياضية حتى تقلد رئاسة تحرير (حبيب البلد) في العام (2008 ? 2012)م.
زواج بعد حين
اتخاذ قرار الزواج بالنسبة لداود لم يكن قراراً سهلاً للمسؤوليات الجسام التي ألقيت على عاتقه، تحمل المسؤولية، كافح ونافح ولم تتحرك في نفسه الأنا الذاتية صمد حتى أتت ثماره أكلها. يقول هيثم: “الزواج لم يكن غاية ولابد منها، بل مسؤولية وحلم بحمل الابن أو البنت، فما يأتي من الله رحمة وسعة”. وتابع: “تأخر زواج داود لأكثر من (15) سنة، فقد توفي أخوه الأكبر وتحمل بعده مسؤولية أبنائه، وبعد مدة توفي أخوه الصغير وحمل أيضاً مسؤولية أبنائه وتربيتهم، وعندما كبروا واشتد عودهم، فرضوا عليه أمر الزواج، ففي (28) فبراير العام (2014)م تزوج من صافية يوسف وانتقل سكنه إلى حي الإنقاذ، وأنجبت صافية مسعود الذي طالما حلم باحتضانه، لكن مشيئة المولى كانت فوق كل الآمال، بعد وفاة داود عملت متعاونة مع إحدى الجامعات في مجال الخدمات.
اهتمامات موسيقية
داود مصطفى – بحسب ما روى هيثم – كانت له علاقة وثيقة بالفنانين سيما الفنان الراحل زيدان إبراهيم التي ربطته به علاقة وطيدة، لكنه بدأ حياته عازفاً للجيتار في فرقة جيلاني الواثق، فهو كان شديد الاهتمام بالموسيقى في ريعان شبابه، وقد ظهر في ذلك الوقت العديد من فناني الجاز مع جيلاني الواثق كان هناك شرحبيل أحمد وفرقة عقارب والبلوستار، بعد العمل كعازف جيتار نحى داود منحىً آخر بحياته، ولاسيما أنه أنهى دراسة التصميم الإيضاحي بجامعة السودان، وركز جل اهتمامه بالثقافة والرياضة، واتخذ من التثقيف الذاتي نهجاً استطاع عبره أن يستقي وينهل من المعرفة قدر استطاعته، أكد ذلك هيثم، وأشار إلى أن داود عندما ولوج الوسط الإعلامي كان متمكناً من عمله الذي سادت عليه المهنية. وقال: “لم يبدأ الأمر عند داود بالمهنية ولم ينته عندها، فعندما عمل في صحيفة الكورة والكابتن الرياضيتين كان يكتب عموداً ويصمم ويخط عناوين صفحاتها الرئيسية يدوياً في ذلك الوقت لم يكن هناك كمبيوتر يستعان به في التصميم والكتابة، لذلك كان تصنيف ما يقوم به من الأشياء غريبة في ذلك الوقت، لكنها تدل على امتلاك موهبة فذة وقدرة على العطاء صنعت منه صحفياً متكاملاً”.
صحافة رياضية بعيداً عن المهاترات
استطاع داود مصطفى التغلب على داء الصحافة الرياضية، فلم يجنح قلمه للمهاترات أو الابتزاز، فكان – بحسب هيثم – صاحب قلم رصين يجنح للمهنية، وأرسى دعائمها في جميع الصحف الرياضية التي تولى دفة قيادتها، لإيمانه القاطع بأن الصحافة الرياضية تُصنع للاعب واللعبة، وليس للنادي والإداري كما يحدث هذه الأيام، ومضى هيثم في حديثه حينما قال: “في المدة الأخيرة تعامل داود مع الصحف كاتباً، وظل يعد الصفحات المتخصصة، فأعد بـ (الفاكس ميلي) و(أول أسبوع) و(ثرثرة على ضفاف المزاج)، كانت صفحات متنوعة شاملة تجد فيها كل ما تحب وتشتهي قراءته، لكنه لم يكتب قط مادة صحفية وحوسب بشأنها، لكنه استدعي وهو رئيس تحرير بسبب مقالات نشرتها صحيفته عده أمراً موجعاً حد الإيلام”. وأضاف: “لولا عمل داود في صحف هلالية لما علم أحد أنه هلالي الهوى والمزاج، وأذكر أن ليلة تأبينه شهده ثلة من المريخاب على رأسهم نجوم التشجيع خالد ليمونة والجنيد ومن الهلالاب الصحاف وسليم أب صفارة”.
أصدقاء وعلاقات اجتماعية
يتمتع داود مصطفى بعلاقات واسعة وأصدقاء مختلفين، رغم أنه تقلد منصب رئاسة تحرير عدة مرات لأنه كان متواضعاً يحب الناس كل الناس، أكد ذلك هيثم. وأضاف: “وهو رئيس تحرير لم يحدث أن أغلق باب مكتبه، ولم يتقلد منصباً لأنه يطمع بالامتلاك والتمليك أي كان مكتب أو عقار أو حتى سيارة، وإنما كان من أجل العمل، ورغم علاقاته الاجتماعية الكبيرة بين الأهل والأصدقاء والمعارف وفي الحي، إلا أنه كان وطيد الصلة بالفنان الراحل زيدان إبراهيم حتى أنه كان بصدد إصدار كتاب يحمل سيرته لكن لم يتسن له ذلك، وتبنت جمعية العباسية الخيرية مسؤولية طباعته، كما له صلة قوية بالفنانة السودانية المقيمة بالقاهرة ستونا مجروس”.
تنظيم وترتيب
كل من تقرب من داود أو كان وثيق العلاقة به يعلم إلى أي مدى كان منظم ومرتب في حياته، ويقتني أرشف ضخم من الصور والصحف، يحب الفن والفنانين لكنه لم يغن بشكل علني، وكان يدندن بأغنيات يفضلها، كتب عن الرياضة والرياضيين لكنه لم يلعب كرة القدم إلا عبر فريق الحي، وعلى مستوى المهنة كان ينادي بوحدة الإعلاميين والمطالبة بحقوهم..
رحل داود مصطفى داود الإمام عن دنيانا بعد رحلة مع المرض لم تمهله طويلاً، بعد تشخيص الأطباء وجدوا أنه يعاني من ضعف في عضلة القلب، ورغم ما اتصف به من ترتيب ونظام إلا أنه غادرنا دون استئذان مساء التاسع من أغسطس (2015)م
اليوم التالي