عن سيرة الدكتور ر حيدر إبراهيم علي أقول لكم

بسم الله الرحمن الرحيم

عن سيرة الدكتور حيدر أقول لكم :
بروفسير مهدي امين التوم

كتر خير الدنيا التي أعطتنا رجلآ في قامة وفكر الدكتور حيدر إبراهيم علي ، بكل تناقضاته ، وطموحاته ، وكبريائه، وإقدامه، وقلقه، بل بكل صراحته الصادمة ، وعنفوانه الذي لا يشيخ ، وعبقريته التي لا تخطئها عين فاحصة أو عقل متوازن، سليم الطوية .

إن كتاب ( أزمنة الرحيل والقلق و الحرية ) ، سيرة الرجل الذاتية ، يمثل لوحة سريالية يختلط فيها الخاص بالعام ، والحاضر بالماضي ، والثابت بالمتحرك. لقد حدثنا فيه عن كل شئ ، مستدعيآ ذاكرة قوية ، واحداثآ عابرة ، وأسماء كثيرة ، و مواقف متباينة . وفي كل ذلك لم ينسى لحظة واحدة انه مؤرخ و عالم اجتماع وتربوي، فوثق ماشاء الله له التوثيق ، وحلل ماشاء له التحليل ، ووجه ماشاء له التوجيه ، دون أن يجعل القارئ يمل ، أو ينتابه إحساس أنه أمام محاضرة علمية ،أو دراسة أكاديمية ،أو سرد ثقيل .

صعب عليٍ جدآ الحديث عن هذا العمل الضخم اولآ لعدم التخصص، وثانيآ لأن بين دفتي الكتاب مقولة تحذر كل من لا يستطيع أن يكون مدهشآ من أن يتحرش بورقة الكتابة !! فهل ترك حيدر لآخر فرصة ليكون مدهشآ ؟؟ ومثل هذه المقولات أو الحكم تتناثر في الكتاب بثراء يكاد يجعلها من أهم إسهامات الكتاب المعرفية والتثقيفية إثارة، أو استفزازآ، للتفكير ، سبرآ للأغوار ، و محاولة لإدراك الأبعاد المستهدفة .

فعلى الرغم من عشق د. حيدر للسودان الوطن ، إلا انه وصفه في الكتاب بأنه ( ممحوق) وانه( كيان راكد) وأنه ( في حالة تلكؤ تاريخي ) . إنها أوصاف صادمة ولكن د. حيدر يبررها تاريخيآ واجتماعيآ ببساطة تكاد تكون مقنعة ومحبطة في آن واحد، بخاصة عندما يصل لدرجة اعتبار أن السودان( يكاد يكون مجرد صدفة تاريخية و جغرافية و سياسية ) هذا كثير يا دكتورحيدر!!
لفتت نظري ايضآ مقولته بان( بداية الكوارث السودانية كانت تكوين الجبهة الإسلامية للدستور في 11121955 بمبادرة من الإخوان المسلمين ) . ولقد كان ذلك قبيل الاستقلال ولا تزال اسطوانتهم تدور حتى يوم الناس هذا، بنغمات تصعد وتهبط لكنها قطعا عطلت تطورنا السياسي وتمخضت في النهاية عن نظام الإنقاذ الإجرامي الذي افسد المجتمع وأبعده حتى عن تدينه الفطري وجعله إرهابيا في نظر العالم . إن الانتماء والتجنيد للتنظيمات العقائدية، كما يقول حيدر ، ( يؤمم دهشة العقول الشابة المقبلة على الحياة ويشحنها بشعارات خشبية تتحول عند النقاش إلى عنف لفظي أو مادي ) . ذلك هو بالضبط ما أحدثه الإخوان المسلمون وجبهتهم الإسلامية للدستور ، فساقوا بها آلاف الشباب إلى حتفهم في أتون حروب عبثية ، فصلت الجنوب ، وتهيئ حاليآ مواقع أخرى إلى المصير نفسه .

توقفت كثيرآ عند مقولته أنه ( خشي البقاء في دولة اشتراكية لكي لا يهتز إيمانه بالاشتراكية). حدث ذلك عندما وجد نفسه في شرق أوروبا في بيئة اشتراكية نظريا لكن واقعها غير ذلك ، فقرر الهجرة إلى دولة رأسمالية ، ليس كفرا بالاشتراكية التي بحث عنها ولم يجدها في بيئتها، وإنما حفاظا على الصورة الذهنية عن الاشتراكية التي انطبعت في عقله وافتقدها في إحدى دولها . هذه مكابرة يا د. حيدر تمثل بعض تناقضات حياتك . صحيح انك عدلت ذلك بعد حين عندما وجدت بديلا في( الوجودية ) ، قناعة ومسلكا، بل عندما وصلت إلى إخضاع الوجودية لتوطين قسري، حيث أصبحت ترى أن ( الهمباتة هم المقابل الموضوعي للوجوديين ، خاصة في نظرتهم لعبثية الحياة ، والعيش على حافة الخطر باستمرار ) . لكن مدهش جدا بقاء الاشتراكية في وجدانك على الرغم مما شهدت وعشت من بؤس في تطبيقها في ارض الواقع .

أعجبني جدا مفهوم( العلاج بالقراءة ) ، وطبعا المقصود هنا الاطلاع وليس الرقية الشرعية التي في قرننا الحادي والعشرين أصبحت لها بكل اسف مراكز في العديد من أحياء الخرطوم العاصمة !! وعشقك للكتاب منذ نعومة أظافرك وتزايد إدمانك له مع تقدم العمر يجعلنا نتفهم دعوتك للعلاج بالقراءة وحقيقة لا ادري كيف كنا سنتعايش مع واقعنا المذري الحالي لولا فسحات من الوقت نقضيها في رحاب الكتب و الكتاب . وفي هذا الصدد لابد من الإشادة باستعراضك للعديد من الكتاب عبر صفحات كتابك، لكن نقدك للطيب صالح و طه حسين قد يكون قاسيا بعض الشيء رغم انه مبرر جدا من ناحيتك !!

و ليس بعيدا عن مفهوم العلاج بالقراءة ، جرأتك في تأسيس مركز الدراسات السودانية رغم كل الظروف المحيطة غير المؤاتية ، و إصرارك على الإبقاء عليه رغم كيد الأصدقاء و الأعداء . إن الإبقاء على المركز ، ولو متنقلا ، يمثل احد ركائز شخصيتك القوية التي لا تعرف الاستسلام و تملأ جوانحها البدائل كما يمثل احد مساهماتك الجادة والعملية لإثراء العقول عبر الكتابة و التوثيق و نشر ثقافة العقلانية ، و التنوير، التي تمثل في مجملها الأغراض العامة لمركز الدراسات السودانية ، بالإضافة إلى أن المركز يمثل واحة و موئلا لشباب المبدعين الذين وصفتهم بأنهم (جيل بلا آباء ) ، كناية عن عدم تواصل الأجيال . إن المركز يمثل بصمة خالدة في دنيا الثقافة السودانية وحتما سيعود المركز الى حضن الوطن عندما تشرق علينا شمس الحرية والديمقراطية من جديد .

إن إشاراتك و انتقاداتك المتناثرة هنا و هناك عبر صفحات الكتاب عن السياسة و السياسيين ، أفرادا كانوا أو أحزاب أو تجمعات، تثبت عمق مأساتنا وخطأ تسليم شؤوننا إلى من هم دون المستوى المطلوب ، ولا ننسى أن نلوم أنفسنا على ما مارسنا من سكوت أو مجاملة أو تفريط حتى انحدرت بلادنا العزيزة إلى درك الإنقاذ بعد مسلسل ديمقراطيات عابثة و شموليات باطشة .

وبعد ، فهذه انطباعات عاجلة و قاصرة ، فالكتاب يستحق عناية علماء الإجتماع لدراسته بشكل تخصصي لما احتواه من ملحوظات و تحليلات لمجتمع سوداني معقد الهوى والهوية ، متجاذب الأصول ، (مثقل بالثقافة الدينية التي تتجاور فيها الخرافة مع العقيدة ) ، وتتشابك فيها الأنا مع العام . ان الكتاب يعكس الكثير من واقع جيل الستينيات الذي شغل الناس ولا يزال!!

ولا يبقى إلا أن أدعو لك بطول العمر، و استمرار العطاء، و تحدي الظروف، من اجل إكمال رسالة التنوير التي أوقفت عمرك عليها. و (كتر خير الدنيا ) التي أعطتك لنا وعرفتنا بك ، شجاعآ تقول ما تعتقد ، وتعتقد ما تقول .

بروفسور
مهدي أمين ألتوم
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. السلام عليك والتحية لك يا بروفسير مهدي أمين التوم…ونحن ندعو لك أيضا بطول العمر وإستمرار العطاء …وفي إنتظار وشوق لسيرتك أنت الذاتية المميزة أكاديمياً وعلمياً وتربوياً وسياسياً وكمثقف سوداني أصيل كامل الدسم.

  2. أولا أحي استاذي البروف مهدي امين التوم اطال الله عمره . القراءة الواعية والنقد العلمي والتقديم المهني للكتب ( أدبية – تاريخية – اجتماعية – سيرة ذاتية … الخ ) ينير الطريق للقارئ ويفتح نافذة ضوء للمعرفة وأيضا عامل أساسي للتحفيز على الاطلاع ) . مهنة الأستاذ الجامعي تظهر جلية في مقال البروف مهدي حيث تبسيط المفاهيم العلمية المعقدة وتقديمها بيسر رقم الأمانة العلمية التي تقيده بوضع بعض المصطلحات بين قوسين . هذا المقال يحفز كل من هو مهتم بالواقع السياسي والاجتماعي والثقافي في السودان على قراءة كتاب الدكتور حيدر إبراهيم . ان كان لي تعقيب فأقول :( يصف الدكتور حيدر إبراهيم السودان بالركود وانه في حالة تلكؤ تاريخي ) المتابع للحراك الثقافي ( فنون وآداب وغناء وتراث ) يلاحظ ان الماعون اتسع ليشمل ثقافات الأطراف التي كانت مغيبة بفعل التوجيه السياسي .. أيضا بدأ يظهر وجه وملمح السودان الآخر ( الافريقي ) بعد ان كان منكرا ومغيبا نتيجة للفعل السياسي ، للأسف لم يحدث هذا بفعل التطور والتلاقح الطبيعي والتاريخي لثقافات السودان المتعددة وانما حدث كردة فعل سياسية مضادة وهو ما لن يضمن الصيرورة والمعافاة . المحير في الامر حدوث حركة بعد ركود وبداية تجاوب مع التاريخ في ظل نظام شمولي آحادي ( اعني الجانب الثقافي والهوية ) …….. اختلف مع البروف مهدي في التوصيف ( ديمقراطيات عابثة وشموليات باطشة ) … لم تكن الديمقراطية الثالثة عابثة ( نشكر الإنقاذ حيث جعلتنا نحس الفرق بين الديمقراطية والشمولية – مايو لم نحس فيها الفرق الكبير بين الاثنين حيث كانت متسامحة لدرجة ما – ، بعد تجربة الإنقاذ لن تجد الشمولية شخص واحد يؤيدها ولن يقف أي انسان في موقف الحياد السلبي …. جيل الشباب الذي ولد وكبر في هذا العهد وعاش الديكتاتورية لن يسمح بقيام شمولية في المستقبل القريب وساعتها تكون الديمقراطية قد ترسخت كمبادئ ومفاهيم وممارسة في السودان ….( الإنقاذ عيار طائش لم يقتلنا كأمة ولكنه ادوشنا ) …. ومن هنا ابشر الامة السودانية بان الإنقاذ هي آخر عهد لنا بالشمولية …. ( في آخر ديمقراطية عشنا الحرية الحقيقية ونوع من العدالة الاجتماعية على الرقم من ضيق الحال …. ولكن ان تعيش الكبت وضيق الحال مع غياب العدالة الاجتماعية فهذا هو الألم الحقيقي .

  3. هذه إضافة رائعة من قامة كبيرة و لكن لنسعي تكريماً لدكتور حيدر و نضاله أن نكمل ما بدأه من عمل وذلك بإعادة إنشاء المركز السوداني للدراسات في موقع ثابت بالعاصمة:
    1- التبرع بمنزل أو قطعة أرض
    2 تبرعات بالمال
    3- تبرع بالوقت للعمل
    4 تبرع بالكتب

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..