
{رؤيتي}
يلعن الكثيرون منا ويوجهون سهام نقدهم للزمان أو العصر الذي نعيش فيه .. فيقولون أن الزمان تغير كثيراً وأصبح صعباً وجائراً مقارنة بما عاشوه في السابق أو عاشه أسلافهم.
ولكن الحقيقة أن الذين يرددون هذا الكلام لايدركون أن الأزمنة لا تتغير ولا تتبدل وإنما الذي يتغير هو المؤثرات والأفعال التي تشكل الأحداث والوقائع في أي عصر من العصور ، ويحضرني هنا بيت الشعر المشهور الذي يُنسب للعلامة الإمام الشافعي -يرحمه الله- [نَعِيبُ زَمَانَنَا وَالعَيْبُ فِينَا ** وَمَا لِزَمَانِنَا عَيْبٌ سِوَانَا
وَنَهجُو ذَا الزَّمَانَ بِغيرِ ذَنْبٍ ** وَلَوْ نَطَقَ الزَّمَانُ لَنَا هَجَانَا] فالإنسان ، من خلال تصرفاته وأفعاله ، هو أحد أهم المؤثرات بل أعظمها تأثيراً على ما يجري في الحياة وما يكتسي به الزمان من أحداث وأفعال.
فالحروب والنزاعات ، والشائعات ، والأخبار الكاذبة ، والممارسات الضارة بالبيئة ، والكون بشكل عام ، مثل قطع الأشجار وحرائق الغابات التي كثر حدوثها مؤخراً وإرتفاع درجة حرارة الأرض والهدر الكبير للموارد بسبب السلوكيات والعادات الخاطئة كلها ممارسات ناتجة عن أفعال البشر ؛ ولذلك لا يجب أن يتفاجأ الناس بما يحدث في زمانهم هذا ويلومون الزمان عليها ؛ بل يجب عليهم أن يعلموا أنهم هم المتسبب في كل ذلك ، وأنه لن ينصلح الحال إلا بتصحيح السلوكيات والأفعال الضارة هذه.
فعلى الصعيد الإجتماعي مثلاً ، دائماً يُسارع الناس إلى القول أن العلاقات بينهم أصبحت باهتة وسطحية ولم تعد علاقات إنسانية حقة كما كانت وكما عهدوها سابقاً وهذا صحيح بالطبع ؛ ولكن هل حاول الناس معرفة السبب الذي أدى لتغير العلاقات بينهم لدرجة أن غاب التواصل الإنساني الحقيقي (لا الإفتراضي) بين الأفراد في الأسرة الواحدة ناهيك عن الأسر والمجموعات البشرية التي تعيش في مكان واحد ؛ والسبب في ذلك يعود لإدمان الناس لوسائل التواصل الإجتماعي الحديثة وتفضيلهم لها على حساب التواصل الإنساني الحقيقي والملموس .. وهذا يشمل كافة الأمور التي تتطلب التواصل بين البشر وممارسة وتعزيز الجانب الإجتماعي فيما بينهم.
وللأسف فقد بدأ الناس مؤخراً يتعودون على هذا النمط من التواصل وممارسة طقوس الحياة الإجتماعية فيما بينهم على هذا الشكل الجديد وهو ما سيؤثر سلباً على حضور الجانب الإجتماعي والإنساني وتعزيزه بين الناس.
ورغم القناعة التامة بأن استخدامات التكنلوجيا الحديثة تقدم فوائد جمة للإنسان في مجالات عديدة ؛ ولكن يجب أن لا ندعها (استخدامات التكنلوجيا) تسيطر على حياتنا الإنسانية والإجتماعية وأن لا يصبح الإنسان أسيراً لها ومدمناً عليها للدرجة التي تؤثر على حياته الإنسانية بهذه الدرجة المخيفة ؛ فمهما قدمت التكنلوجيا والوسائل الإلكترونية الحديثة من فوائد فإنها لن تغن عن التواصل الإنساني الحقيقي (الملموس والمحسوس) بين البشر، وعلى مستوى الأسرة بشكل خاص.
وعليه أتوقع أن تصدر دراسات في المستقبل القريب لتحذر من التأثير المدمر لإدمان العيش في براثن “الواقع الإفتراضي” وأقصد هنا تواصل الناس وممارسة حياتهم الإنسانية من خلال أجهزة الهواتف والحواسيب.
عوداً على بدء ، فإن الناس يلومون الزمان الذي يعيشون فيه وينسون أنهم هم المتسبب الرئيس في ما وصلوا إليه ؛ فالزمان ما هو إلا ظرف أو منصة (ماعون) تحتضن كل ما ينتج من البشر من تصرفات وأفعال وسلوكيات وتعكسها على واقعهم ، وهم بذلك (البشر) سيرون ما كسبت أيديهم أمام ناظريهم .. فإن صلحت هذه الأفعال والسلوكيات فسينصلح الحال وعندها سيقول الناس بصلاح الزمان أو فساده .. ولكن الحقيقة هي أن الزمان بريء مما يلصقونه الناس به دون وعي ؛ فالزمان هو الزمان والأيام هي الأيام .. أما الإنسان فهو من يصنع واقع الزمان وأحداثه من سلام أو حروب، نزاعات أو استقرار ، ظلم أو عدل ومساواة ، حب أو كراهية ، جمال أو مآسي وكآبة ..!! كل ذلك من صنع الإنسان ولذلك فلا يلومن إلا نفسه!!.
أخلص للقول أننا نحتاج لإعادة النظر والتفكير ملياً في واقعنا المأزوم في كافة المجالات ومحاولة تصحيح الأخطاء وتحسين الواقع الذي نعيشه حتى يعود جمال الحياة وصفاءها وبهجتها.
من جانب آخر ، إنتشار العنف وخطاب الكراهية في كل العالم يجسد بوضوح ما وصل إليه واقع الحال خاصة في ظل ترابط العالم مع بعضه البعض من خلال وسائل الإتصال الحديثة وشبكة الإنترنت التي ضاعفت من فرص “الإلتقاء الإفتراضي” بين البشر الشيء الذي يساهم في نشر الرسائل بشقيها النافع والضار على نطاق واسع ؛ بالإضافة لما يترتب على ذلك من تصاعد في حجم التأثير المتوقع من هذا الإنتشار.
ختاما ، هذه دعوة صادقة لتصويب السلوكيات والأفعال الضارة والكف عن تحميل الزمان ما ليس له من وزر .. فالضرورة تقتضي أن نواجه أنفسنا وأن يبدأ كل شخص في مراجعة سلوكه وأفعاله والتمسك بالتواصل الإنساني الحقيقي والعمل على نشر الخير والسلام والفضيلة حتى نسعد في هذا الكون ونترك إرثاً تستفيد منه الأجيال القادمة بإذن الله.🔹
