مقالات وآراء سياسية

“رداً على د. النور حمد في “ههنا يكمن تكلّس اليسار” (2/2) “

معتصم القاضي

في هذا المقال نتناول الصورة التبسيطة التي يتحدث بها د. النور حمد عن شعارات أحزاب اليسار ومواقفها، عندما يصف تمسكها بها في رفضها للتطبيع نوعاً من “التكلس اليساري”، ويدعوها للخروج «من الاعتداد الزائف بالذات، ومن نزعة التحدي الصدامية الرعوية ومن الانسياق وراء الشعارات»  ثم يقول: «لا مخرج من وضعنا الراهن الخانق إلا بعون أجنبي وهو ما يقتضينا في اللحظة الراهنة، شيئًا من المرونة وحني الرأس للعاصفة وابتلاع الشعارات الفارغة. وهذا في تقديري ما سوف يحدث».

يعكس الشعار الرؤية المكثفة لمآلات الفكر عند التحقق في أرض الواقع. ولأن الشعار بهذا المفهوم هو الحلم، والتجربة هي الواقع، فإن التمسك بحرفية الشعار في طريق تحقيقه  على أرض الواقع قد يكون أمراً عسيراً، لأن توازنات القوى في منعرجات التاريخ قد تتطلب إتخاذ مواقف مرحلية، تفرضها الظروف، لا تتماشى مع روح الشعار. وهنا نجد أن هناك من يتمسك بشعاره حتى لو أدى ذلك للتضحية بحياته فيوصف بالشجاعة والثبات، وهناك من ينحني للعاصفة ويتخذ مواقف متناقضة مع شعاره فيوصف بالإنتهازية وعدم المصداقية، وفي أحسن الأحوال قد يصفه البعض بالبريجماتية.

لم يتراجع الصحابي الجليل بلال بن رباح عن شعاره «أحدٌ أحد» تحت التعذيب، بينما تراجع مكرهاً عمار بن ياسر فسبّ الرسول وذكر دين المشركين بخير حتى يتركوه، لكن قلبه كان مطمئناً بالإيمان. وكذلك نجد أن الشهيد الأستاذ محمود محمد طه لم يتراجع عن فكره ورفضه لقوانين سبتمبر ١٩٨٣ أمام حكم الإعدام، بينما تراجع بعض اتباعه في مهزلة الاستتابة، ولا نحسب أن موقفهم هذا كان يختلف عن موقف عمار بن ياسر. ولا أعرف إذا كان د. النور حمد يضع موقف الاستاذ محمود محمد طه في محكمة المهلاوي وثباته على مواقفه وعدم التراجع  عنها أمام المقصلة في خانة “الاعتداد الزائف بالذات، ونزعة التحدي الصدامية الرعوية، و الانسياق وراء الشعارات”.

كذلك لم تسقط الإنقاذ بالأماني الحالمة، وإنما بصمود الشباب الذين تحدوا تاتشرات نظام الكيزان القمعي وقدموا أرواحهم رخيصة لتحقيق شعار “حرية سلام وعدالة”بينما كان يرى البعض، ومنهم د.النور حمد، عدم إمكانية إسقاط الإنقاذ بالثورة وإنما عن طريق إنتخابات 2020 التي كان يروّج لها النظام لأنه مطمئن للفوز بتزويرها كما زوّر سابقاتها.

كذلك كان يرى البعض أن شعار الحزب الجمهوري “الحرية لنا ولسوانا” قد تم إختباره في أرض الواقع خلال الحكم الديكتاتوري لجعفر نميري، إذ ظل الحزب الجمهوري يعمل بمفرده في الساحة دون أن يطالب بهذه الحرية للأحزاب الاخرى، وأن موقف الحزب الجمهوري العملي قد أفرع شعاره من محتواه النظري، ولم يرتقي لموقف ڤولتير الذي يقول: «قد اختلف معك في الرأي ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمناً لحقك في التعبير عن رأيك». إلا أن البعض يري أن الاستاذ محمودً كان يرى أن الحكم العسكري أخف ضرراً من الطائفية ويوفر فرصة لزيادة الوعي عن خطورة الطائفية على مستقبل السودان، فاختار أخف الضررين.

الشاهد إذاً ان مسألة التمسّك بالشعار أو الانحناء للعاصفة تفرضه الظروف وتعقيدات المشهد وحسابات الربح والخسارة لكسب الحرب وليس المعركة. فهناك تنازلات تُخسر الحرب لا تقبل، وهناك تنازلات قد تخسر المعركة مع أمل كسب الحرب، ولا يجب أن نضع التمسك بالشعار في خانة “الاعتداد بالذات” ولا أن نضع الانحناء للعاصفة في خانة ”الإنتهازية”.

ولهذا كم كان سيكون مفيداً للشعب السوداني لو أدار د. النور حمدا حواراً جاداً مع الاحزاب في الصحف أو التلفزيون في أمر التطبيع، لأن لغة التهكم من الشعارات والمواقف ونبش الماضي بطريقة أحادية دون تحليل متوازن ومنصف قد أخرج الصراع من دائرة الحوار العقلاني إلى ساحة التدمير الشامل.

من حق د. النور حمد أن يكون له موقف من العون الأجنبي والتطبيع، وكذلك يحق لغيره أن يكون له موقف يختلف عن موقفه، وهذا هو طبيعة الخلق والحياة والكون والأشياء من لدن آدم. لكن ليس هناك دليل قوي على صحة موقفه، بل بالعكس كل الدلائل تشير إلى أننا نتعرض لعملية ابتزاز كبيرة، إذ أن الدولة التي تعدنا بالمن والسلوى مقابل التطبيع تطلب منا ان ندفع ٣٠٠ مليون دولار أولاً لترفع إسم السودان الفقير المعدم من قائمة الإرهاب لتعطينا ٣ مليار دولار بعد التطبيع. وهذا حديث لا يقبله عاقل. وإذا قبله فالسؤال المنطقي: لماذا لا تخصم هذه الدولة ال ٣٠٠ مليون من ال ٣ مليار وتقول سنعطيكم ٢ مليار وسبعمائة ألف دولار إذا طبّعتم وتنتهي كل القضايا.  وكما يقول أهلنا الجواب ظاهر من عنوانه والقاصي والداني يعلم ان موضوع التطبيع والعجلة التي تتم بها مجرد لعبة لخدمة فرص نجاح الرئيس ترمب في الإنتخابات.

أقول هذا وأنا لا أمانع في إقامة علاقة مع دولة إسرائيل على أساس الإحترام المتبادل مع المطالبة برفع الظلم عن الشعب الفلسطيني، إلا أن التطبيع، وبغض النظر عن الشعار، يُعرَض على السودان بطريقة مهينة جداً لا تترك مجالاً إلا لرفضه وترك أمره ليقرر فيه الشعب السوداني بعد أن يتكون المجلس التشريعي أو بعد الحكم الانتقالي.

9 أكتوبر 2020

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..