حينما يكون الحشد «بالفطرة»

لم نر طيلة عمر الإنقاذ ان حاضرة ولاية الجزيرة ود مدني، بل لم نر عموم أهل الجزيرة.. وهم في حالة انفعال وتداعٍ تلقائي حقيقي بمثل ما حدث عشية الخميس الماضي إبان زيارة السيد رئيس الجمهورية لافتتاح مهرجان السياحة والتسوق، حيث أفلح مايسترو الشرق إيلا في صياغة وعزف موسيقى جماهيرية لحنية بنغمة واحدة انتزعها باقتدار من بين زخم من الأصوات والتباين والتراجعات التي ظلت تشكل مشهداً بائساً ومشوهاً بالجزيرة في مرحلة ما قبل إيلا.. مشهد أذهب عنها جمالياتها وابتساماتها وجعلها على رأس قائمة الولايات المأزومة.
في تلك الليلة وما تلاها من ليالٍ وصباحات تبين أن هذا المهرجان الذي انطلق بالجزيرة لمسافة ثلاثة أشهر قادمة لم يكن فقط مشروعاً سياحياً أو ثقافياً أو تسويقياً فحسب، ولكنه كان مشروعاً متكاملاً زاوج بين السياسة والسياحة وبين الثقافة والتنمية والخدمات، مما أعطى المشهد هذه الحالة الانفعالية التلقائية، حيث لم تكن هناك أدنى محاولة لإنتاج مشهد آخر مصنوع، ولكن أكثر ما اثار الدهشة والاستهجان ان صورة الحزب السياسي الكبير والحاكم صاحب الصولات والجولات في مثل هذه الكرنفالات كأنه تمزق وتلاشى من المشهد، حيث لا حزب ولا أحزاب، فتجلت رؤية وقيادة الرجل الواحد «البلدوزر» في صناعة وإعداد كل مكونات مشهد الجزيرة الآن، وبالرغم من خطورة مثل هذا التوجه على الطاقم الحاكم، إلا أنه ربما هو الخيار الأصلح والأنسب لولاية كالجزيرة ارهقتها الأزمات، وظلت لسنوات عجاف تحت وطأة حزب مثقل بالخلافات والبؤر الملتهبة.
أما في المناقل فكان المواطنون هناك على وعد مع مشروع طريق «المناقل ــ القرشي ــ أبو حبير» بطول «93» كيلومتراً انتظروه أكثر من عقدين من الزمان كحلم ظل معلقاً بين الثرى والرياضة ومشروعات، تائهاً بين الحقب والأضابير والموازنات العاجزة، وتعاقب عليه عدد من الولاة والوزراء الاتحاديين المختصين بالتخطيط والتمويل والتنفيذ لهذا الطريق، ولكن الحلم لم يتخط محطة الصفر.
وبالأمس حاولت الحكومة الاتحادية أن ترد بعض دين ووفاء، وتعيد تحريك ملف هذا المشروع الحيوي وتنفذ ضربة البداية، فكانت المناقل هناك محتشدة عن بكرة أبيها لتشهد تفاصيل حدث طالما انتظروه طويلاً.. كانت المناقل وربيبتها «24» القرشي في فرح وزهو كبيرين، فكان الحضور والمشاركة بقدر أهمية وعظمة هذا الطريق والدور الذي يمكن أن يلعبه في حياة الناس وفي تأمين معايشهم وخدماتهم وتنميتهم، ووضع حدٍ لمعاناتهم في سبيل بحثهم عن أدنى مطلوبات الحياة، رغم أن المواطنين يعانون كثيراً بسبب أزمات الغاز والوقود.
إفادات الجهات الرسمية بالمناقل وبالولاية تتحدث عن مرحلة وإرادة جديدة بإمكانها أن تحيل هذا الحلم الى واقع والى حياة، وان هناك جدية في التمويل وفي التنفيذ، وكل الذين كانوا هناك شهدوا بحقيقة ان طريق «المناقل ــ القرشي ــ ابو حبيرة» يعتبر بمثابة نقلة تنموية وخدمية كبرى لمئات القرى والأرياف المتناثرة في فضاءات بلا حياة بين المناقل وأبو حبيرة، غير أن المواطنين يخشون الردة والانتكاسة وسقوط العشم، فهم دوماً يبحثون عن ضمانات لاستمرار العمل، والمتشائمون يعتقدون أنه بمجرد اسدال الستار عن الكرنفال وعودة الكاميرات والاقلام إلى أغمادها سيعود المشروع الى وكره القديم، وحينها تتلاشى الآمال وتتجدد الأحزان.
ويبدو أن المشهد العام بالجزيرة يتشكل الآن وفقاً لمعطيات وأدوات جديدة تتفاعل الآن بشكل واضح وفاعل بعيداً عن المنظومة الحزبية، مما جعل المواطنين يقبلون على نفرة ايلا ويملأون فضاءات استاد ود مدني حتى ضاق بهم على سعته.
مفاوضات “اللحم الحي”
اقتربت المواقف وهدأت الأنفاس وابتسمت الوجوه هكذا قالت «الميديا» التي نقلت تفاصيل ما جرى على طاولة التفاوض بين وفدي الحكومة والحركة الشعبية قطاع الشمال بالعاصمة الإثيوبية أديس ابابا، حيث تحدث إبراهيم محمود وتحدث كذلك ياسر عرمان عن الإرادة المشتركة التي دفعتهم دفعاً للتفاوض ووقف نزيف الحرب في دارفور وفي المنطقتين «جنوب كردفان والنيل الأزرق»، ولكنهم لم يتحدثوا عن تلك الإرادة التي سيقهرون بها الشيطان القابع في التفاصيل وبين الأجندة وثناياها، لأن سوابق التجارب علمت السودانيين انه ما بين قضية وقضية تنسرب أجندة ومصالح وأفكار ربما ليس للسودانيين فيها حق أو مكاسب، وان كل الذي يظهر على سطح الطاولة من تفاوض وابتسامات وعناق تحركه آليات من تحت الطاولة، حتى لو أكدت الأطراف السودانية أن إرادتهم التي صنعت هذه المواقف المشتركة مبرأة تماماً من أي عيب، او بالأحرى من اية عوامل غير سودانية، خصوصاً أن أطراف التفاوض لم تتوغل حتى الآن الى داخل اللحم الحي.
ولهذا يجب أن يحدثنا هؤلاء عن كيف ولماذا تحققت هذه الإرادة الجديدة بين الحكومة ومجموعة ياسر عرمان؟ ثم لماذا غابت أو استحالت أو صعب الوصول إليها في أكثر من «10» جولات تفاوضية مضت لم يحقق أي طرف منهما اية نتيجة ولم يعد ولا حتى بخفي حنين.. كل السودانيين ينتظرون الآن حداً لنهاية هذه الملهاة التي شغلتهم واهدرت طاقاتهم وبددت آمالهم .. تفاوض هناك في أديس وحوار هنا تحت سقف قاعة الصداقة بالخرطوم.. حراك وجهود لا طائل منها.. حرث في البحر وسباق بلا نهايات وتستمر الأزمات.. السوق في انفلاته والدولار في جنونه والفاسدون في حصونهم والغاز والبنزين سلع ضرورية تأبى الآن، وأن تظل هكذا في عليائها وجبروتها وعزتها وضنينها صعبة المنال وعصية الوصول حتى للأسر ميسورة الحال ولا عزاء للفقراء وأصحاب الدخول المحدودة .
انهم يصفقون ..!.
إنهم يهللون ويكبرون.. وحيناً يصفقون داخل «قبتهم » أما الذين يهللون ويكبرون من نواب البرلمان فهم يمارسون سنة الأولين في سلك الإنقاذ «الثورة» تحكمه مادية وقيم مشروعهم الإسلامي، اما ظاهرة «التصفيق» داخل البرلمان فهي قيمة مكتسبة ألحقت بالممارسة البرلمانية بعد أن دخلت البرلمان وجوه أخرى حاولت ورغم قلتها وهوانها الانتصار لذاتها، اما قيادة البرلمان فقد اغضبتها ظاهرة التصفيق، فحاولت الجامها والانتصار لذاتها القديمة، فمنعت التصفيق بتوجيهات حاسمة ربما يحسبها البعض انتقاصاً من هيبة وأهلية البرلماني في ممارسة مهامه ومسؤولياته، لكن توجيهات البروف إبراهيم أحمد عمر قد تفهم أيضاً في سياق حرصه على الدور الذي يمكن أن يقوم به البرلماني كعضو في الجهاز التشريعي الذي يمثل أحد الأضلاع الثلاثة في مكونات أية دولة في العالم، وهي الى جانب التشريع «التنفيذ والقضاء».
أحزان تترحل ..!
لملم عام 2015م اشياءه وارتحل بعد ان انقضت لياليه وصباحاته، وخلفه ترك فينا جراحات عميقة واحزاناً مقيمة، فعلى الصعيد العام مثلاً اتسعت قاعدة الأزمات السودانية في جانبها السياسي والاقتصادي، فالوطني مازال يتلكأ إن لم يكن قد غاص في اوحاله ومستنقعاته رغم انطلاقته مبكراً منذ عامين عبر خطاب الوثبة الشهير، اما على الصعيد الاقتصادي فيبدو أن الحزن الذي تركه فينا عام 2015م كبير، فكان وقعه وتأثيره على المواطنين حملاً ثقيلاً، فكم من أسر فقيرة كادت تتلاشى وهي تشقى نهاراً وليلاً بحثاً عن أدنى ضروريات الحياة والعيش الكريم من غاز وخبر وماء وصحة.. كل البشريات تبددت والشعارات سقطت.. توقفت المصانع والمشروعات الكبرى وتناثرت هياكلها كالجثث في العراء.. وتعقدت حسابات وموازنات الأسر السودانية من حيث دخلها ومنصرفاتها.. الأسعار في جنون وحرب مع المواطن لا هدنة ولا هوادة فيها، والرأسمالية المتوحشة استحكمت قبضتها على مفاصل الاقتصاد وأجهزت عليه، فبات أسيراً تحت يديها تقوده كيفما تشاء..
هكذا كانت تركة عام 2015م، ولكننا ننتظر عشم باكر ونتمسك بالقشة الواهنة في عمق البحر المتلاطم، علها تنجينا من الهلاك وتدفعنا الى الشواطئ الآمنة.. وهكذا نحلم ونطمح ونرتجي عام 2016م بلا أحزان وبلا أزمات

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..