مقالات وآراء

الشهداء يرحمهم الله ولا عزاء في بلادي

د. مهدي تاج الدين عبد النور

ضجت وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها (المسموعة والمرئية  والمقروءة) على مدى أيام تلت فض اعتصام إحياء ذكرى الاعتصام الذي أسفر عنه قتيلين وعدد من الجرحي، الحادثة في حد ذاتها شنيعة ونكراء ، لأن هذه الدماء عزيزة وغالية ، فالشهداء يرحمهم الله.
لانقول في موتهم شيئ سوى (حسبنا الله ونعم الوكيل).

لكن دعونا نركز قليلا في ماذا بعد الحادثة؟ ربما لم تفت على فطنة الكثيرين التركيز الإعلامي الكثيف جداً لحادثة فض اعتصام ٢٩ رمضان الماضي ( نكرر أن الحدث كان بشعا وشنيعا وفظيعا حتى لا يزاود علينا أحد) ولكنه لم يكن مختلفا في تفاصيله ضمن أحداث أخرى كثيرة حدثت في أطراف السودان، شرقا وغربا وجنوبا وشمالاً، فمثلما يرى السياسيون أن السودان هو فقط الخرطوم؛ وقعت وسائل الإعلام وخاصةً الفضائيات في  الخطأ في نفسه سواء بقصد منها أو دون قصد ، لاحظنا مذيعون تكلفوا كثيرا في إبداء أسفهم وحزنهم على ما حدث ودخل بعضهم في نوبات بكاء هستيرية لا أدريً : هل أسفا على ما حدث أم جهلا بما يحدث بشكل متكرر في بلد الآهات والخيبات والصدمات. أننا نعيش في زمن التغييرات الصادمة ، خرج الشعب من أجل الحرية فاصطلى بنارها، خرج من أجل العيش الكريم ؛ فتجرع علقما، خرج من أجل السلام ؛ فاحتسب شهداء….. لم تكن وسائل الإعلام تعرف، أو أنها لم تُرد أن تعرف ما جرى في الجنينة وكتم والردوم ، كما لم ترد أن تعرف ما جرى في كسلا وبورتسودان واكتفت بتصوير ما جرى في الخرطوم جحيما لا يطاق وهي بذلك تعتقد أنها قد أدت دورها…. بينما في الجانب الآخر من الضفة ضحايا عنف ممنهج تحت سمع وبصر الدولة راح ضحيته مئات الأشخاص ولا عزاء لهم، على سبيل المثال ما جرى من فض للاعتصام في القيادة : حدث مثله مئات المرات في دارفور، لم يفض اعتصاما فحسب بل فُض الشرف مثلما فُضت قرى بحالها ودكت مع الأرض دكا لتموت معها الأمهات والآباء والأطفال والآمال والأحلام، وتشرد سكانها وتفرق بهم السبل في معسكرات اللجوء والنزوح بعد أن كانوا عزازاً مكرمين، لا لذنب أقترفوه ولا لجرم ارتكبوه، فقط هذا ما أراده الطاغية ولا عزاء لهم….. لكن المؤسف سكتت وسائل الإعلام عن كل هذا وتسامحت مع ذاتها لأنها لم ترد أن تتحدث.

اعتقد في زمن الصدمات هذه، لطالما لم يتغير شيئ نحو الأفضل ما الذي سيجعل الحكومة متسامحة مع المتظاهرين وتقدم لهم الورود؟ أيعقل أن تسمح الحكومة في ظروف تكوينها المعروفة للجميع بتظاهرة تطالب بإسقاطها أو تقديم رموزها للمحاكمة، أليست هذه أفريقيا؟

ما الذي تحسن؟ لم تتحسن الحريات، لم تتيسر سبل العيش، لم تتحسن إدارة الدولة مطلقا، كما لم يتغير سلوك الحاكم والمواطن، فمن أين يأتي الصلاح؟

التاجر الذي يحتكر البضاعة لكي يخلق الندرة ويستغل المستهلك هو نفس التاجر الذي خرج في المظاهرات وطالب بإصلاح الحكومة، الموظف غير المبالي بواجباته ، هو ذات الموظف الذي يطالب بإصلاح الحكومة، السائق الذي يجزئ الخط ليكسب أكثر ، هو نفسه خرج متظاهرا ويسب ويسخط، تاجر الوقود الذي يسمح بسرقة الوقود من محطاتها ليلا وبيعها بعيدا بأثمان مضاعفة هو نفسه ثورجي ومطالب بالإصلاح، ثم أن نفس أولئك القوم الذين طبَّلوا وزمَّروا للحكومة السابقة هم أنفسهم بدلوا جلودهم وسلخوا سابقيهم بألسنة حداد ، وركبوا قطار التغيير  بتذاكر  مخفضة، لا لشيئ سواء حماية مصالحهم، فسرقوا ثورة الشعب وانحرفوا بها بعيدا عن مسارها، وهكذا الشواهد والأمثلة تترى . ومع كل ذلك؛ تتحدث وسائل إعلامنا عن المواطن الملاك  الطيب وتسرف في مدحه والثناء عليه، بل قال بعضهم الشعب المعلم في إشارة واضحة لتميزه عن غيره في القيادة والريادة، اعتقد أننا كشعب نبالغ في مدح أنفسنا، تلك الصفات لا نراها في معاملاتنا إلا في حدود مصالحنا الضيقة، فمالم يحدث التغيير في سلوكنا بالقدر الذي يجعلنا نرجح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة- التحلي بالروح الوطنية- فهل نحن الشعب بسلوكنا المشهود والممارس في مؤسساتنا، وأسواقنا وسائر معاملاتنا نعبر عن حبنا للخير والوطن؟ إن لم نكن كذلك، وأحسب أننا لسنا كذلك، فمن أين يأتي الإصلاح و الصلاح ؟؟؟

هؤلاء الساسة خرجوا من رحم هذا الشعب وتشربوا قيمه وتحلوا بعاداته وتقاليده، فهم مثلهم مثل شعبهم تماما في طفراته وعلاته، إنهم مثلنا تماما في كل شيئ بل إزدادت أنانيتهم الخاصة عندما تسلقوا على ظهورنا.
إن ما يحدث  في بلدنا سواء من جانب أفراد الشعب أو سلوك حكومته يشبهنا تماما ، فالشهداء يرحمهم الله ولا صلاح لنا إلا بتغيير سلوكنا. هذا هو واقعنا فلنكُف عن المدح الزائف لشعبنا ولنتصارح بالحقائق الموضوعية عنّه كي نمهد الطريق لبناء وطن معافى من جراحات الماضي ويسع الجميع.

ولنا عودة.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..