مقالات ثقافية

التجاني يوسف بشير ـ الحائرْ المُحَيّر( 6 من 13)

محمد فقيري

كانت مأساة التجاني مع المعهد العلمي كبيرة ومؤثرة عليه جداً. حينما إلتحق التجاني بالمعهد كان قد بدأ في كتابة الشعر ، وأثناء وجوده في المعهد كتبَ عدة قصائد عرّضته لبعض المشاكل مع شيوخ المعهد وطلبته. وخلق بذلك عداوة بينه وبين البعض من المدرسين والطلبة.

إستنكر التجاني المنهج الدراسي للمعهد ، الذي يقوم على تحفيظ الطلبة الفقه السلفي التقليدي المُجتر ، وإستاء من بعض المسائل الفقية المثارة في المعهد ، الطريقة الأرايتية ، ارأيت لو أن شخصاً فعل كذا فماذا حكمه ، وهي طريقة إفتراضية لمسائل إنصرافية كانت منتشرة في الأواسط الفقية وما زالت تنتشر بكثرة ، كإرضاع الكبير وجماع الزوجة المتوفية على سبيل المثال.

وجد التجاني نفسه في وسط إعتبره متخلفاً ، فمن المسائل التي كان يدور النقاش حوله في المعهد مسألة الشخص الذي يحمل كيساً مملوءً [ بال …………..] ، كلمة قبيحة ، لذلك لا أذكرها  وهي معروفة ، وكان السؤال الفقهي هو: إذا تسرّب بعض هذا [………] من الكيس هل يجوز وضوء الشخص؟ ، مسألة تدعو للإشمئزاز ، إستاء التجاني جداً وقال أن هذا النقاش لا معنى له، لأن هذا الشخص غير مكَلّف اصلاً ، ومرفوع عنه القلم بإعتباره مجنوناً ، غير عاقل ، لم يعجب هذا الإعتراض أعدائه ، فبدأ الكلام عن تمرد التجاني ، ثم حدث نقاش بين الطلبة عن الشِعر ، وكان في المعهد شوقيون وحافظيون ، يقارنون بين شِعر شوقي وشِعر حافظ ، من أشعر من مَن ؟، أحمد شوقي أم حافظ إبراهيم؟ ، وكان التجاني معجباً بشِعر شوقي ، فقال أن الفرق بين شِعر شوقي وبين شِعر حافظ كالفرق بيت القرآن وبين الكتب الأخرى.

تحولت هذه المقارنة البريئة إلي أن التجاني يشبّه شِعر شوقي بالقرآن ، وإنتهز أعداؤه من الطلبة هذه الفرصة وذهبوا إلي مدير المعهد وقالوا له أن التجاني قال أن شِعر شوقي أفضل من القرأن ، وطبعاً هاج وماج  شيوخ المعهد وحكموا على التجاني بالكفر والزندقة وتم فصله من المهعد.

حدثت بعد ذلك محاولات من خارج المعهد لإعاة التجاني بالتوسط بمدير المعهد ، ولكن التجاني كفر بالمعهد نفسه ورفض الرجوع ، كان التجاني يقرأ كُتب الفلسفة ، وكتب الفلسفة كانت ممنوعة في المعهد ، كان يفرأ المجلات التي تأتي من مصر ، وكانت هذه هي الأخرى ممنوعة ، وقد منع المعهد كل الطلبة من قراءة الكُتب التي كان التجاني يتطلع عليها.

في التهاية ، بقي التجاني مذكورا في التاريخ ، يملأ إسمه الآفاق ، وتملا آثاره فضاء الفكر والأدب ، ترك مادة سوف ينشغل بها الناس ما بقوا ، بينما غاب ذكر من كفّروه فلم يبقى لهم أثر .

بعد فصله من المعهد كتب التجاني قصيدته المشهورة (المعهد العلمي) ، وهي قصيدة طويلة جميلة جداً ، عبّر فيها عن حبه للمعهد من ناحية وعن (غابية) المعهد والظلم الذي لحق به من ناحية أخرى ، القصيدة طويلة نقتطف منها:-

يا مَعهدي وَمَحط عَهد صِباي من دارٍ تَطرّقُ عَـن شَبـاب نابـهِ

واليَوم يَدفَعُني الحَنيـن فَأَنثنـى وَلهان مُضطَرِبـا إِلـى أَعتابِـهِ

سَبق الهَوى عَينيّ في مِضمـاره وَجَرى وَأَجفَل خاطِري مِن بابهِ

وَدَّعت غَضّ صِباي تَحتَ ظِلاله وَدَفنت بيض سني في مِحرابـهِ

نَضّرت فَجر سنـي مِـن أَندائِـهِ وَاشتَرت ملء يَديّ مِن أَعنابِـهِ

هُوَ مَعهَدي وَلَئن حَفظت صَنيعه فأَنا ابن سرحته الذي غَنـى بِـهِ

فَأَعيذ ناشئة التُقى أَن يرجفوا بِفَتى يَمتّ إِلَيـهِ فـي أحسابـهِ

ما زِلت أَكبَر في الشَباب وَأَغتَدي وَأَروح بَينَ بخٍ وَيا مَرحى بِـهِ

حَتّى رُميت وَلَستُ أَول كَوكَـب نَفِس الزَمان عَلَيهِ فَضل شِهابـه

قالوا وَأرجفت النُفوس وَأَوجفت هَلَعاً وَهاجَ وَماجَ قُسـور غابـهِ

كفر ابن يوسف مِن شَفي وَاعتَدى وَبَغى وَلَسـتُ بِعابـئ أَو آبـه

قالو احرقُوه بل اصلبوه بل انسفوا للريح ناجس عظمه وإهابه

وَلَو ان فَوق المَوت مِن مُتلمـس لِلمَرء مُـدّ إِلَـيّ مِـن أَسبابـه.

 

كان التجاني فخوراً بنفسه وبأسرته ، متيقناً من تفرده ، مقدراً لموهبته ، عاقلاً بعبقريته ، معتزاً بفكره ، عارفاً بنباهته ، يقول في إحدي قصائده:-

أَنتَ سباق وَلَكن لِلعُلى …. أَنتَ جَبار وَلَكن في الفكر

لَكَ آثار النَبيين الأَلى …. ملأوا العالم ذِكرى وَأَثَر

معَزمات دُونَها بَرق الدُجى ….. وَمَضاء دونَهُ لَمح البَصَر

كُنت يا بن النَفر البيض فَتى …. جاءَ لِلكون بِهِ أَي نَفَر

جَره المَوت عَلى شقته ….. فَتَثنى عَلى الأُخرى اِنكَسَر

أَينَ صَوت سامهُ المَوت البَلى …. وَيَراع  بَينَ كَفيك عَثر

أَيُّها الثاوي عَلى بلقعة ….. وَالمَواري بَينَ هاتيك الحُفَر

إِنَّما مَوت عَليم عظة …… لَيسَ كُل المَوت لِلناس عبر

تَتَراءى كَشُعاع مُدمن …… قُدرة اللَه عَلى سَطح الزبر

أَحكَمت رَصفاً وَمَعنى مِثلَما ….. أَحكم البناء مَصقول الجدر.

 

للتجاني ديوان وحيد صدر بعد وفاته ، فيه واحدة وستون قصيدة ، سَمّى التجاني ديوانه (إشراقة) ، ومن يقرأ التجاني لا يجد كثير عناء حتى يعرف لماذا إختار التجاني هذا الإسم بالتحديد ، فالإشراقة عنده معنى ملتصق بنفسه ، وبذاته ، ووجوده ، وشعره ، وفكره ، وهو يقول بصريح القول في أكثر من موضع لماذا سمى ديوانه بهذا الإسم:-

هيَ نفسيَ (إشراقة) مِن سماءِ اللهِ …. تحبـــو مـع القـرون ِ وتبطــي
موجة كالسـماءِ تقلع من شـــطَ …. وترسي مِـن الوجــود ِ بِشــطِّ
خلصتْ للحيــاة من كـل قـيـْد ….. ٍ ومشتْ للزمــان ِ في غيــر ِ شرْط ِ

ويقول في قصيدته الطويلة (قطرات):-

قَطَراتٌ مِن النَدى رَقراقَه … يصفق البَشر دونَها وَالطَلاقَه

ضمنتها مِن بَهجة الوَرد أَفوا … ف وَمِن زَهرة القرنفل باقَه

نَثَرت عَقدَها أَصابع مَن نُور …. تُرسلنَ خفة وَأَناقَة

ألي أن يقول:_

وَهِيَ رَيّانَة تَمد قطافاً …. مِن جَنى كَم ذا طَعمت مَذاقَه

مِن دَمي يَستدرها أَنفاسي …. لَهيباً أَسمَيتُهُ (إِشراقَه)

قَطرات مِن الصِبا وَالشَباب ….. الغَض مُنسابة بِهِ مُنساقَه

وَرِهام مِن رُوحي الهائم الوَلهان …. أَمكَنَتُ في الزَمان وَثّاقَه

ظَلَ يَهفو إِلى السَماء وَيَشكو …. لَوعَةَ الروح ها هُنا وَاِحتِراقَه

يَتحدرن مِن مَعابد أَيامي …. حَنيناً أَسمَيتُهُ (إِشراقَه)

قَطرات مِن التَأمُل حَيرى … مطرقات عَلى الدُجى مِبراقَه

تَترسلن في جَوانب آفاقي …..  شُعاعاً أَسمَيتُهُ (إِشراقَه)

يـُتبع

 

محمد فقيري

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..