وإن طال السفر


دائماً ما تسعى البشرية حين تتحدث أو تؤرخ للوطنية للإستدلال برموز محددة . قد يكون الرمز من جنس بنى البشر، كما الزعماء و الأبطال، وقد يكون حيزاً مكانياً معيناً ، قرر الناس بشأنه، وحسموا أمره منذ سنواتٍ قضت، أن هذا المكان تشكل داخل وجدانهم ، مما أدى لوسمهم إياه بالوطنية، وقد يكون شيئاً معنوياً، كنص شعرى أو عمل مسرحى أو درامي، تماماً كتحية العلم والأناشيد الثورية.
إن هذا ليس من قبيل البدع أو المغالاة أو التنطع، إذ لاتجتمع الإنسانية على أمر باطل، فعقول الناس وضمائرها ووجدانها لهى الدليل الهادى والمرشد.
فى وطننا ، قد يختلف الناس حول ميول إسماعيل الأزهرى السياسية -مثلاً – وطرحه ومنهاجه الذى اتخذه، وبه عمل، لكن إسماعيل ومنزله قد استقرا فى وجدان الناس كرمزين من رموز الوطنية، وقد يرى الكثيرون أن مدينة أم درمان ماهى إلا مدينة من تراب، وأنها مصنوعة، ذلك ضرب من ضروب التحليل المجتمعى ليس إلا، قد يصدق وقد يكذب، ولكن الحقيقة التى لاجدال حولها، أنها البقعة التى جمعت كل السودانين بكافة طوائفهم ومللهم وقبائلهم وفنونهم وأنشطتهم، حتى نقش الزمن على جدرانها، وتضاريسها، وأزقتها ، ومعالمها، عبارة ، حفظها ورددها جيل إثر جيل، (العاصمة الوطنية)، مصنوعة كانت أم طبيعية أو تدثرت بالتراب، لا يهم .
هؤلاء الأشخاص وتلك الأشياء والأماكن، يتماثلون مع أشجار السنط واللبخ ، كلما مر عليها يوم ، مدت جذورها إلى باطن الأرض، وأشارت بفروعها إلى صدر السماء، فيتمدد ظلها، فإذا ما ما حاول البعض التعرض إليها و إليهم، فلن يسلم من الغضب الجماهيرى، ومايعقب ذلك الغضب من ردة فعل، اتسمت بالتعقل ردة الفعل هذه أم جانبته ، فالأمر عندئذ لهو دفاع عن شرف ، والشرف الذى تحدده الجماهير ،لا الأقلية ، يصبح الزود عنه واجباً عاماً ، وتجاهله خيانة ، وفى سبيل الدفاع عنه تنال الأسلحة بكل أنواعها، شرعية الإستعمال .
جامعة الخرطوم ليست رمزاً للوطنية فحسب، بل إنها قد بلغت مكاناً ( منذ ثلاثينيات القرن الماضى، يوم أن كانت مدرسة، فكلية ، فجامعة ) جعل منها (أما) للوطنية، فما من عمل وحدث وطنى وسياسى إلا وكانت جامعة الخرطوم منصةً لانطلاقه، أو حضنا يأويه ، أو درعا يحميه ، هذا بخلاف مكانتها العلمية وسط أقرانها من الجامعات حتى العام 1992، ليس على مستوى المنطقة فحسب، بل على مستوى العالم. ولذا حرص كل امرئ وطنى على وضعها شامة على خده، وغرة على جبينه، وحملها بين جوانحه، حتى وإن لم ينل شرف الدراسة بها. فهى مفخرة لكل سودانى أرضعته أنثى، وفصدت جبينه شمس السودان التى لا تغيب.
صاح صائح ، أن الحكومة بصدد بيع (أم) السودان، فتجاوب السودانيون مع تلك الصيحة، فهم دائماً أهل فزع ونجدة، يغيثون الملهوف، ويزودون عن الضعيف، ويطعمون الجائع ، ويحلفون بالطلاق ، حينما كان الزواج مؤسسة لها قدسيتها ، تلك شيم مكتسبة، قد تختفى برهة، لكنها لا تموت.
تجارب السودانيين مع الحكومة تجعلهم يظنون أن حبلها أفعى، فهى الحكومة التى باعت ذات يوم (أباها ، الذى أنشأها وسواها ) ونكلت به، أو يوقفها بعد ذلك شيئ؟!
وهى ذات الحكومة التى تخلصت من مشاريع قومية – ذات ريادة عالمية وإقليمية – بجرة قلم، وهى التى ظلت وما فتئت ترغب فى أن يبدأ تاريخ السودان بيوم تسنمها لظهره، وقيادتها بزمامه. وهى التى قالت ذات بيان إن رفعة الإقتصاد مبلغ همها ومرتجاها، وأن محاربة الفساد ديدنها ومبتغاها، فانطلقت بافرادها وحواريها نحو الإقتصاد الوطنى وثروات البلاد، لا لرفعة الوطن وزيادة حصيلته النقدية ومحاربة المفسدين، بل لرفعتهم هم ورفعتها ودوام هيمنتها، فسمقوا، فهم ظل الله فى الأرض وخلفائه، وهم الأولى بالبقاء وبالبلاد ، أما البقية، فهم من الضالين أو المغضوب عليهم أو الملحدين ، ثم واروا الثرى بعد ذلك جثمان الإقتصاد الوطنى، دون أن يقيموا عليه صلاة الجنازة، ودون أن يصحبهم مشيعون.
يا ليت كان الصائح ببيع جامعة الخرطوم كذوبا، بل ثبت بما لايدع مجالاً للشك أن النوايا مبيتة، والقرار قديم، والسبب رغبتهم فى إفراغ وتجفيف وسط العاصمة ، من أى بناء أو مكان، يكون سبباً فى وجود وتكدس الجماهير العريضة، فواسطة البلاد وخاصرتها هى التى تسقط الطغاة والجبابرة، والجماهير هى من تفعل وتقود، لا الجيوش الجرارة وجحافل المأجورين وأصحاب الغرض ، ولا الخطباء، أو من يحترفون العمل السياسى.
شاء السميع العليم أن يفك عقدة لسان وزير ليقول: أنهم بصدد تحويل مبانى الجامعة إلى مزار أثرى! ليكذبه لاحقاً مجلس الوزراء، لا بعد قوله هذا، ولكن بعد الهبة الطلابية التى ارتهم الحق حقاً والباطل باطلا، تلك التى أعادت لذاكرتهم ماشهدته أعينهم عبر القنوات الفضائية قبل سنواتٍ أربع ، وما حاق بزملائهم فى الدول المحيطة جراء حصاد ألسنتهم وفعائل اياديهم.
إن رموز الوطن والوطنية، بل ومكتسبات الأمة، لا تقبل التهاون بشأن مصيرها، ولو كان محض شائعة، كما أن طلاب الجامعات ليسوا بأدوات تستخدمها الأحزاب كيفما شاءت، هذا استخفاف بعقول الناشئة وطموحاتهم ورؤيتهم الخاصة لمستقبلهم ، ومن يقول بغير ذلك لهو بلا شك قد فقد البصر والبصيرة وذاكرة التاريخ، فثورة أكتوبر 1964 اشعلها طلاب جامعة الخرطوم، وثورة أبريل 1985 انطلقت من الجامعة الإسلامية بأم درمان، وجميع من قاد وتجمع وثار واستثار فى المنطقة العربية منذ العام 2011 كانوا صبية تتراوح أعمارهم مابين الثامنة عشر والخامسة والعشرين.
تلك الهبة والمناصرة والمؤازرة تؤكد تماماً أن السودان والسودانيين بخير وعافية، فالذين استثارتهم جامعة الخرطوم ومصيرها ، استثارهم قبلها أيضا وطن بأجمعه، عانوا فيه ولأجله ما عانوا، لكن هبتهم الكبرى كميقات الحمل، ميعادها فى قرار مكين، ولها أجل معلوم، ولو كره الكارهون، وتشاءم المتشائمون . وإن لم يرعوى ذوو الشأن فهى حتماً ستكون، وإن رأوها بعيدة.
فالحروب كما تقررها السلطة السياسية، وتخطط لها و تنفذها الجيوش، فإن الثورات تقررها الشعوب، وينفذها ويخطط لها الشباب والطلاب. وهى حتماً تتحقق، وإن طال السفر، واستطال سقف الهواجس من الثورات، ومن عواقبها ومآلاتها.
فالثورة كما السيول ،لاتفكر فى مجراها، إنما تشقه شقا.
محمود، ، ،
[email][email protected][/email]