قصة قصيرة ” الغريب “

و نظر جدي إلى الأفق البعيد لبرهة ، ثم ابتسم و قال و المسبحة تتدلى من أصابع يده النحيلة ” جاءنا يا بنى ذات يوم صيفى ما . بدت الشمس و كأنها قد أدارت ظهرها إلى الكون كله لتصب شواظها على قريتنا . كنا قد خرجنا للتو من المسجد بعد أن فرغنا من أداء صلاة الظهر ” . و أردف و هو يميل طاقيته إلى حافة رأسه كعادته كلما أوغل في السرد ” فجأة وجدناه أمام باب المسجد . كان جائعا ، و منهكا ، و هزيلا و نازفا . حيانا ثم سقط على الأرض فحملناه في الحال إلى ديواني الكبير هذا . أحضرنا له الحكيم من الشفخانة فضمد جرحه ، و أطعمناه من الدجاج و اللحوم ما يكفى لجيش جرار ” . سألته ” ألم تتساءلوا عن أصله و فصله ؟ ” نظر جدى فى عيونى بحدة ثم قال ” الهواجس و التساؤلات هذه هى سمة جيلكم أنتم . أما نحن فلم نكن نسأل الضيف و عابر السبيل أن يرينا بطاقته الشخصية لنكرمه” . و مد عصاه الخيزران الطويلة و أشار فى شكل دائرة فى الفضاء مردفا ” هذه القرية التى تتحول الآن إلى مدينة صغيرة ، هذه البيوت الأسمنتية الباردة التى تراها كانت مبنية من الطين و أمام كل واحد منها راكوبة قش عملاقة يجلس تحتها أصحاب البيت و جيرانهم طوال اليوم . و هذه ” الايريلات ” المرتفعة إلى الفضاء كأرجل عاهرات وهمية ، و التى لا تجلب سوى المشاهد العارية و الثقافات الملتوية، ما كنا نعرفها . كان هناك تلفزيون واحد فى بيت جدك الكبير . زمان ، كنا نجتمع فى دكان عمك المرحوم ” ود خريبان” عقب صلاة العصر و نتسامر حتى منتصف الليل . كنا نصلى المغرب و العشاء أمام الدكان . كنا شلة نقية ، فيها الختمى و الأنصاري و الصوفى ، و حتى ” محمود الشيوعى ” الذى جاءنا من بلاد السوفيت بشهادة اقتصاد كان حين نذهب إلى بيته يأمر ابنه الصغير أن يحضر لنا أباريق الوضوء و سجادات الصلاة ، بل كان يقرأ معنا “راتب المهدى” فى عيد الأضحى ” . نظرت إلى جدي متأملا وجهه الأسمر الوسيم ، عيناه جميلتان كعيني الأنثى ، انفه طويل مستقيم و شفتاه رقيقتان . ذكر لى أبى أن النسوة كن يتشببن بجدى ، و منهن من كان يغمى عليها حين ينزل إلى ساحة الرقص ، متمايلا بقامته المديدة كصارى السفينة . ربطتنى بجدى منذ الصغر علاقة حب متبادلة . كنت حفيده الأثير و كان أحب خلق الله لى . و منذ صغرى أدخلني إلى خلوة القرآن ، و اشرف على تعليمي الحكومي ، بل خاصم أبى حين ارتأى الأخير أن يخرجني من المدرسة لأساعده فى فلاحة الأرض . و لعل الفضل الأكبر فى كونى درست “صحافة و إعلام” يعود إليه دون أهلي . كان جدى يصر أن أرافقه حين يسافر إلى القرى المجاورة مهنئا و معزيا . ذكروا لى انه كان متفوقا فى دراسته لكنه اضطر أن يضحى بأحلامه الأكاديمية حين توفى أبوه ، تاركا له مهمة تربية إخوته و أخوانه- و ما أكثرهم !. سألته ” و هل أعلمتم الشرطة بالأمر ؟ قهقه جدى حتى بدأ صدره يصدر صوتا ككرير ماكينة سيارة قديمة و قال ” شرطة ؟! و هل كنا وقتها ندرى شيئا عن الجرائم ؟ ذات عام زارنا مرشحون كثير . هذا تابع للحزب الفلانى و هذا للحزب الفلتكانى . يختلفون طولا و عرضا و يتفقون فى الابتسامات البلاستيكية و الوعود الجوفاء . أذكر منهم واحدا قصيرا بشكل مضحك . اضطررنا أن نوقفه على كرسى ليخاطب الجمع . قال لنا بأنه ، حال فوزه ، سيبنى لنا شفخانة و مدرسة و مركز شرطة و جمعية تعاونية و سيحفر لنا قنوات إضافية للمشروع . طبعا حين فاز لم نر وجهه بعدها . لكن حكومته أحضرت لنا جوز عساكر قصار القامة جلسوا معنا سنين عددا دون أن يحدث أمر ذو بال فى القرية ، فتزوجا منا و عملا بالزراعة مثل بقية أهل القرية . سألته و أنا اضغط على يده بحب ” و ماذا حدث بعد أن أحضرته إلى ديوانك ؟ ” . تنهد جدى طويلا ثم أردف بأسى و صوته يتهدج ” حدث إن القرية منذ تلك الليلة لم تعد كما هى . أتعلم يا أحمد .. كنا قبل قدوم ” عثمان العالم ” نعيش فى قريتنا هذه فى وئام غريب . كان يعيش معنا “دينكا ” فى أطراف القرية . صحيح كانوا يصنعون الخمور ، و كانوا لا يدينون بديننا ، لكنهم كانوا إخوة لنا ، يقفون معنا في الأفراح و الأتراح ، بل إن منهم من يرافقنا إلى المقابر لدفن موتانا . و كانوا حين يحضرون إلى سرادق عزائنا يقرأون الفاتحة و يحيوننا بتحية الإسلام . لم نكن من أولياء الله الصالحين الذين تشد إليهم الرحال ، لكن سفيهنا ما كان يجرؤ على رفع عينيه إلى جارته أو بنت فريقه . كانت ” ست العرقى ” تعيد لك باقى مبلغك إن أخطأت أنت و دفعت لها مبلغا إضافيا ، و اذكر إن شيخ الطريقة كان يذهب إلى ملعب القرية ليشاهد الصبية يلعبون كرة القدم ، و كان يستمع إلى أغنيات عبد العزيز داؤود .فجأة بدأ الحقد يتفشى بين الخلق . بدأت البيوت تتهاوى كان زلزالا ضربها . اذكر انه حضر إلى القرية يوم السبت . استيقظنا يوم الأحد على ولولة زوجة “ود خريبان ” . ركضنا إلى البيت فوجدنا ديوان الرجل قد سقط عليه فتوفى فى الحال . و حتى اللحظة لا يعلم احد ماذا حدث لذاك الديوان العملاق . بعد يومين تهاوت عربة بنسوة فى الخور الذى يمد القرية بماء الأمطار للشرب و الزراعة . كن عائدات من عزاء فى قرية صغيرة مجاورة . علمنا فيما بعد أن ” ود برناوى” السائق كان ثملا يومها . و هو أمر لم نعهده عنه أبدا ” . و مسح جدى دمعة ترقرقت على عيونه و استطرد ” بعد خمسة أيام تعارك شابان فى السوق . فاستل احدهما خنجرا و اغمده فى بطن الثانى فارداه قتيلا ” . سألته و الفضول يلتهم خيالى ” و ماذا حدث بعد ذلك ؟ ” . انزل جدى رجليه من عنقريبه الى الأرض و قال ” تلك الجمعة خطب فينا ” عباس المبروك ” إمام المسجد . قال إن ذاك الغريب الذى جاءنا فجأة و كأن باطن الأرض قد تقيأه إلى خارجها هو أس المصائب ، و انه ليس ببشر و إنما شيطان رجيم و علينا أن نقتله . نظرنا إلى الإمام فى لا تصديق . حتى إمامنا بات يحرض على القتل !
فجأة ، انسل هو ? الغريب- من بين الخلق فى المسجد العتيق . وقف أمامنا بقامته الطويلة ، ووجهه الوسيم ، و ابتسامته الخلابة . حيانا فى أدب جم ، فأخذنا بصوته العذب . و قال إن المصائب إنما هى ابتلاء الله ، يمتحن بها أقوياء الإيمان من ضعافه . و ذكر أن قدر ” ود خريبان” أن يموت شهيدا تحت أنقاض ديوانه ، كما أن نسوة القرية قد استشهدن لان الغريق شهيد بنص الحديث . و أمرنا أن نخرج الدينكا الذين ظلوا يعيشون معنا سنوات طويلة من القرية لأنهم ٍسبب المصيبة ، فهم يصنعون الخمر التى احتساها ” ود برناوى ” مما أدى إلى سقوط العربة فى الخور و بالتالى موت النسوة . صمت أبى لبرهة و استطرد ” كانت فى حديثه طلاوة و عذوبه غريبة ، فاستمعنا إليه و حواسنا مستلوبة ، و دواخلنا مبتلة بمطر وسيم . و عيوننا تغرورق من الدمع . و لم يكد يفرغ من حديثه ، حتى بدأ المصلون يهتفون بسقوط ” عباس المبروك ” ، و نصبوه إماما للمسجد بدلا عنه ” .
بعد أسبوعين توفى جدى فى صمت . كنت قد ذهبت إلى الخرطوم لاستكمال بعض الأوراق الرسمية و حين عدت فوجئت بالفاجعة . قال أبى إن جدى استدعاه تلك الليلة ووصاه على إخوانه و أخواته ، وكأنه كان يعلم بتاريخ موته ثم أعطاه طردا ليسلمه لى . فتحته بعد أيام من الوفاة فوجدت فيه تنازلا لى عن بعض الحقول فى القرية . تلك الليلة تمددت على فراشى و صوته يرن فى دواخلى ” ثم جاء ” عثمان العالم . نصبناه إماما لنا . بعد شهر كان قد أصلح أكبر تاجر ذرة فى القرية . و أضحى يتحكم فى أرزاقنا . تزوج أربعة نسوة دفعة واحدة ، و أصبح يطلق و يتزوج مثلما يشاء ، و كلما حدثناه في أمر أقنعنا بعكسه بسهولة غريبة . أذكر انه مرة انقع رجلا بتطليق زوجته ليتزوجها هو . نعم ، تغير بقدومه كل شئ . الجار ما عاد يعرف شيئا عن جاره . بتنا يموت فقيرنا جوعا و يموت غنينا تخمة . هاجر شباب القرية إلى المدينة و قويت عيون النسوة فبتن يدخن النرجيلة و يرقصن أمام الغريب و يضحكن بأصوات مجلجلة أمام الوالد و الأخ . عاد رجلا الشرطة إلى مخفرهما ليحاربا الجريمة ، و تركا الزراعة ” .
سافرت إلى الخرطوم بعد ذلك للعمل ، و اقترنت بزميلة لى هناك ، لكنى الوشائج بينى و بين قريتى لم تمت ، فظللت أزور الأهل في الأفراح و الأتراح ، بل و أزورهم بلا مناسبة حتى تقوى الجذور بين أبنائي و أهلهم الطيبين ، و بذلت قصارى جهدى فى أن أوصل صوتهم المبحوح الى آذان من ندعوهم ظلما بالمسئولين !
ذات صباح ، اتصل بى أبى . قال لي إن القرية قد استيقظت فلم تجد ” عثمان العالم ” . تبخر فجأة مثلما قدم . ذهب الناس إليه فى ديوانه الأنيق ليحيوه و يسألونه أن يدعوا الله لهم لينزل الغيث ، فقد اجدب الغيم و أناخ الصيف بكلكله على أضلاع القرية الرقيقة . دلفوا إلى بيته فلم يجدوا سوى زوجاته ساهمات يقلبن أيديهن فى حيرة . قالت أكبرهن ” بات معى ليلة أمس ، و كان كعادته رقيقا مجاملا . عند الصباح ذهبت لأيقظه فوجدت الفراش ملطخا بالدماء و لم أجده . تلاشى كالدخان !” .
ذاك اليوم أعدنا ” عباس المبروك ” إلى إمامة المسجد !!!
……………
مهدى يوسف ابراهيم
جدة
[email][email protected][/email]
جيدة ّذات رمزية عالية لكنك لم تستيطع التحرر من اسر الطيب صالح
عزيزي و اخي خليل …شكرا لملاحظتك القيمة …حتما سأضعها في الحسبان مستقبلا …كن بخير
ومتين عثمان العالم بتاعنا دا يتلاشىى كالدخان .. قال انتخابات قال ..
قريب يا صديقي …الخلود لله وحده يا خوي
اللهم اجعلو خير دا البشير ذاتو ان شا، الله نصبح يوم مانلقاهو اميييييييييييييييييييييييييييييييييين
Brilliant, authentic and filled with symbolism ya Mahdi, keep it up
Thank you brother . Truly appreciate your viewpoint . Stay well
جيد الى الامام
نتمنى ان نراك كاتب قصة كبير ومشهور
الى الامام الى الامام
واصل الكتابة
تسلم اخوي …تسلم … ممتن جدا لي كلماتك الطيبة … و دعواتك ربنا أيسر الأمور .. كن بخير يا صديقي …