هل كل من يدخل في معترك السياسة ينعت بالكذب والنفاق؟

ثمة من يطلق عبارات تحذيرية تُوجه لأي شخص يفكر الخوض في عالم السياسة، ذلك عندما يُقرر ويعرب عن نيته بالانخراط في مجالات السياسة، يقدم إليه النصح من الأهل والأصدقاء بعدم الدخول في معترك السياسة؛ كونها مجال للكذب والنفاق وأنها لعبة قذرة.
لذا قبل أن نتناول بالتحليل مدى صحة هذا المفهوم يحسن البدء بتعريف السياسة من حيث اللغة والاصطلاح.
فالسياسة لُغوياً مأخوذة من الفعل ساس أي سير، ونظم ، ورتب شؤون أمرٍ ما، أما اصطلاحاً فتُعرف بمفهومها العام على أنّها مجموعة الإجراءات، والطرق، والأساليب الخاصة باتخاذ القرارات من أجل تنظيم الحياة في شتّى المجتمعات البشرية، بحيث تعمل على إيجاد آليات التوافق بين كافّة التوجّهات الإنسانية الدينية، والاقتصادية، والاجتماعية، .. وغيرها، وتضم أيضاً آليات توزيع الموارد، والقوى، والنفوذ الخاصة بمجتمع ما أو دولة ما.
نعم لقد سمعنا منذ نعومة أظفارنا، بأن السياسة هي لعبة قذرة وتسودها الكثير من المؤامرات بين الخصوم أوحتى بين الحلفاء، و هي لا تصلح للناس الشرفاء لأنها تعتبر بمثابة وحل كبير من تطأ قدماه هذا الوحل، لا يستطيع الخروج منه، إلا بعد أن يتلطخ بطين المستنقع، أو حتى يصيبه بعض رشقات خفيفة من المياه العكرة التي قد تسيء لسمعته الشخصية.
فنادراً، ما نسمع أن سياسياً ما قد احتل منصباً رفيع المستوى لم تناله ألسنة الناس، أو انتشرت حوله بعض الشائعات التي تنهش في سيرته الذاتية، قد تكون في كثير من الأحيان مجرد شائعات مغرضة.
إلا أن السياسة في الدول المتقدمة ليست حرباً ووعيداً و وتهديداً، أو انتهاكاً لحقوق الإنسان، بل السياسة هي طريقة لحل المشكلات و الأزمات التي تتعرض لها البلاد، لكن بطريقة إبداعية وذكية، تحمي أمن وحقوق المواطنين، و تحقق النمو والرخاء للشعوب.
عطفاً عليه أن السياسة ليست نفاقاً أو لعبة قذرة كما يظن معظم الناس، بل هي أفضل وسيلة يستطيع الحكام والقادة توظيفها من أجل مصلحة الشعوب، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه من هم هؤلاء القادة الذين سيستعملون تلك الوسيلة الإنسانية ؟
افتراضات:
1 – فلو افترضنا مثلاً، أنه لو امتهن السياسة تاجر سلاح، كيف ستكون نظرته للسياسة؟
بالطبع ستكون السياسة بالنسبة له، عبارة عن صفقات للأسلحة الرابحة بين الدول الغارقة في الحروب والصراعات الدموية، وسوف يستغل منصبه السياسي لتحقيق ثروات هائلة في عالم الأسلحة المشروعة أو حتى المحرمة دولياً.
2 – ولو امتهن السياسة خبير في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، كيف ستكون نظرته للسياسة ؟
بالطبع سوف يخشى هذا الخبير على سمعته، بأنه رجل ينتهك حقوق المواطنين وسوف يقوم بتشجيع حرية الرأي و دعم مؤسسات المجتمع المدني، و سيحرص على الالتزام بالمعاهدات الدولية و القوانين و الدستور الوطني من أجل حماية حياة المدنيين، لأنه يؤمن بالإنسانية ويرى أن الشعب هو صاحب السلطة.
3- ولو امتهن السياسة رجل أعمال فاسد، وهمه الأكبر أن يحقق أرباحاً مالية بكافة الوسائل المشروعة و غير المشروعه، فكيف ستكون نظرته للسياسة ؟
بالطبع سوف يقدم الرشاوى لكي يجلب الحلفاء، و لن يكترث إذا ما وظف مال الشعب لمصلحته السياسية الخاصة، فثروات البلاد و أموال الشعب سوف تكون بالنسبة إليه ملكية شخصية ، والشعب هم مجرد رعاع يتوسلون إليه من أجل أن يتكرم عليهم بمنحة أو صدقة ما.
4- ولو افترضنا أن حاكماً أقتفى أثر الخليفة عمر بن عبد العزيز في السياسة وقلده، من باب “وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح” كيف ستكون نظرته للسياسة؟
بالطبع سوف يلتزم بشرع الله والقانون وسيعتبر أموال الشعب أمانه عنده، ويحترم القضاء و لن يتردد في تسجيل أي مورد مالي يأتي للشعب بسجلات الدولة، ولن يتخاذل في محاسبة الفاسدين، بحيث يجعل القانون فوق الجميع.
يحكى أن فاطمة بنت عبد الملك زوجة الخليفة عمر بن عبد العزيز دخلت عليه يوم توليه الخلافة فوجدته يبكي, فسألته عن سر بكائه .. فقال لها: إني تقلدت (أي توليت) من أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم ..أسودها وأحمرها فتفكرت في الفقير الجائع , والمريض الضائع، والعاري, والمظلوم , والمقهور , والغريب الأسير، والشيخ الكبير, وذوي العيال الكثير, والمال القليل ، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد …فعلمت أن ربي سائلني عنهم يوم القيامة , فخشيت أن لا تثبت لي حجة فبكيت . !!
إذن نستنتج من تلك التصورات السابقة ، أن السياسة هي سلاح ذو حدين ، يمكن أن تكون قذرة إذا استخدمها الفاسدون والقتلة، و يمكن أن تكون نظيفة إذا استخدمها الصالحون، والشرفاء، والنزهاء.
فالسياسة أيضاً ليست مجرد تظاهرات في الشوارع بشكل عشوائي ولعن الحكام والدعوة إلى استخدام العنف و الانتقام، بل السياسة هي قبل كل شيء مخافة الله في الرعية، وهي أيضا استخدام تكتيكات ذكية، و عمل دبلوماسي دؤوب، و إجراءات شفافة، و أنشطة سلمية من أجل تحقيق الأهداف الوطنية، بشكل قانوني و حضاري.
ولكم من الود حمل بعير.
[email][email protected][/email]