ثقافة وآداب، وفنون

جمال فتاة من خيال!

عبدالحميد البرنس

كانوا خليطاً من منفيين وفدوا إلى كندا من دول شتى. منهم مَن أقبل ساعياً من مصر، بعضهم جاء عبر فرنسا من كينيا، آخرون من جنوب أفريقيا. كما لو أنهم حفنة أشياء ألقت بها كفّ الزمن فتفرّقت في الأنحاء والله وحده يعلم متى تعود هذه الأشياء مجتمعة إلى أصلها. الصين نفسها، كانت حاضرة هناك، في هيئة شخص كلما حفظت اسمه نسيته. لم تكن لدى ذلك الوافد من الصين أي علامة مميزة. كان كماء الوضوء. لا لون، لا طعم له، لا رائحة. لم يشارك في تلك الحوارات بشيءٍ قد يكشف عمّا يستدلّ به على نوع شخصيته. لم يغنِ لحظاتِ أن استبد بأوائك المنفيين وجدٌ فأخذت حناجرهم تصدح حيناً، تترنم حيناً آخر بأصوات بدت في خفوتها ذاك أقرب ما تكون إلى دندنة بحّارة متعبين على مشارف العاصفة. فوق هذا وذاك، لم يكن يتعاطى أي نوع هناك من الخمر. لم يلقِ ولو بمجرد قصيدة كما فعل آخرون: “بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة/ وأهلي وإن ضنوا عليَّ كرام”. لم يردد مثلهم بين الحين والحين، قائلاً: “عيد ميلاد سعيد، يا حامد”. اكتفى بالقول مرة ولاذ بشؤونه. كان مهموماً، حتى نهاية السهرة، بملء الكؤوس الفارغة وتوزيعها على أولئك المنفيين الغرباء، ببراعة ودقة خط إنتاج في مصنع ياباني كبير. من الآن فصاعداً سأُنادي ذلك الرجل “الغامض” باسم “الصيني”!

حسوت كأسي الأولى،

كأسي الثانية،

الثالثة..

بدأت أوصالي تتحلل.

لم أعد أحسب بعدها.

“هل تعرف مها الخاتم”؟

كنت لا أزال أتأمّلهم بعد منتصف الليل بذات العينين اللتين ظلّتا هادئتين قانعتين الأغلب منذ بداية السهرة بالمشاركة الصامتة. مع أنني محور كون المناسبة ومركزها ذاك الملتحم دوماً بالوطن. كانوا يرفعون الكؤوس تباعاً في الهواء قائلين في بعض الأحيان معاً: “في صحة حامد عثمان المحتفى بعيد ميلاده. نموت نحن يا رفاق ويحيا هذا الوطن المجيد”. رويداً رويداً، بات الحقد أثراً من بعد عين. حتى جمال جعفر الذي لا يُنسى، وقد أفسد طهارة مها الخاتم سعيد، الفتاة الوحيدة التي أحببت؛ بدا لي وسطهم فجأة مثل كل إنسان آخر منهم. يمكن أن يصيب هنا. يفقد الهدف هناك. مَن كان منكم بلا خطيئة فليرمِها إذن بحجر. أماندا نفسها قالت بعد أن أدركتْ فداحة ما قامتْ به تلك الليلة: “ما حدث حدث، حبيبي وليم”. وهذا العالم وُجِدَ منذ هبوط آدم عليه السلام كي يُرتكب فيه السقوط. إلا ما معنى ذلكم المدعو نهوضا؟

في صباح يبدو بعيداً ونائياً تماماً، رأيت مها الخاتم في باحة مكتب الأمم المتحدة، بحيّ المهندسين في القاهرة، لأول مرة. لو أن الله الكريم منحني إمكانية أن أعود إلى لحظة واحدة مرت من حياتي لما ترددت في اختيار لحظة اللقاء تلك بمها. كان كل شيء سيُضاء. من ذلك القائل إن الحياة عبارة عن مباراة لكرة القدم علينا لعبها مرة من دون حتى مران يسبق؟

كانت تحمل في يدها أوراقاً، بينما تعبر البوابة داخلةً، بتلك الهيئة. فجأة شعرت كما لو أنني أرى الحياة نفسها تتهادى قادمة نحوي. توقفتُ عن الحركة. ماتت كل الذكريات والمخاوف في جسمي. لم يطرف لي جفن. إلى أن عبرتني إلى الداخل ورائحة عطر يدعى “الرُمْبا” تضوع منها خفيفا. كنت أنهيت معاملاتي في الداخل للتو. وجدتني أنتظرها في الخارج زمناً لا أعلم مداه. أتحرك دائرياً قبالة بوابة المكتب الرئيسية. ثمة شيء ما فيها أخذ يهز كياني بقوة. لا. لم يكن الأمر عندما أتأمّله الآن مجرد “حبّ من النظرة الأولى”. كان أشبه بصورة أنثى ظللتُ أراكم في أجزائها منذ لحظة البلوغ. أحذف، أضيف إليها عبر السنوات في عقلي الباطني من هذه الملامح وتلك. إلى أن غدت الصورة في سنوات الوحدة محاطةً في اكتمالها ذاك بالحنين برّاقةً حد العماء. ثم، هكذا، بغتة تخرج الصورة من أعماق نفسي السحيقة حيّة تتهادى أمامي. لا أدري بالضبط ما حدث لي عند رؤيتها تلك لأول مرة. لعله الدوار. لعل الوقت لم يكن الوقت. لعل فتاة أحلامي في ذلك الصباح قد تأخرت طويلاً في الحضور. أو لعلي لم أكن أتوقع في قمة المفاجأة أن تتحول الأحلام حقيقة؟

ما أدركه أنني كنت وقتها غارقاً في فقر مدقع لا ينفك يرتفع من حولي كالأسوار في عيني أسير. كان اليأس يتقاذفني مثل كرة بين أقدام صبيّة أصحاء. الأفق بدا دوماً مسدوداً. لو أن الله القدير وهبني في تلك الثانية التي تركت فيها فتاة أحلامي تنسرب من عالمي إمكانية النظر إلى أبعد من موطيء قدمي لما تلوث حلمي وشاركتُ لاحقاً بنفسي في اغتياله؟

كان ذلك على أي حال أول عيد ميلاد لي وسط صحبة!

أتذكر قبل سنوات في القاهرة كيف احتفلت وحيدا بعيد ميلادي التاسع والعشرين على نحو لا بد أنّه أثار حيرة الشيطان نفسه.

كان هناك الويسكي، الفودكا، الشيفاز، أنواع مختلفة من المزة. ثمة روائح طيبة أخذت تطرق أبواب الشهيّة برفق بينما تتهادى من داخل المطبخ كرغائب مؤجلة. كنت أخلط كأسي في تلك اللحظة ببعض الماء كعادة مكتسبة حديثاً، وقد زالت من حولي حيطان، وبي رغبة ماسة لا تقهر في معانقة العالم بأسره، لو لا أن المكان في شقة جمال جعفر والصيني كان خاليا من أي حضور للأنثى. إذا صوت جمال جعفر يتناهى، منشدا أبيات الحسن بن هانئ الحكمي الدمشقي:

أثْنِ على الخَمْرِ بآلائِها
وَسَمِّها أحسَنَ أسْمائِهَا
لا تجْعَلِ الماءَ لَها قاهرا
وَلا تُسَلّطْها على مَائِهَا

“هل تعرف مها الخاتم”؟

كان حضور الصيني، “ساقي الأرواح”، يتمدد لحظة أن تفرغ كأس قبل أن ينحسر ويتحول إلى شبح، إلى شيء ما خفيّ. حين استقر بي المقام في وينبيك قليلاً، علمت أن الصيني هذا يشارك جمال جعفر سكنَى الشقة، يتقاسمان النفقات مناصفة. ظلّ جمال جعفر يذكِّرني لبعض الوقت بالاسم الأصلي لرفيقه الصيني هذا دون جدوى. كان اسم “الصيني” استقر في نفسي دون أي زحزحة. حكى لي جمال يوماً على مقاعد بورتيج بليس أن الصيني ظلّ يقوم داخل الشقة بدور الساقي منذ أسابيع في أعقاب وعد سبق أن قطعه له يوناني يدير أحد الملاهي الليلية بالعمل معه في وظيفة ساقٍ بعد قضاء فترة تطوع قد تمتد إلى نحو العام أو تزيد. “الصيني طموح، يا حامد، لا يريد أبداً العمل مثلنا في وظيفة هامشية”، قال لي صديقي عمر الخزين مرة، بينما ينازع حنيناً مقبضاً آخر إلى العمل في وظيفته السابقة كأستاذ في إحدى مدارس شرقي السودان. قال لي إنه لحظة أن يقف أثناء تلك الحصص أمام التلاميذ من نواحي البِجا كان يشعر بمعدته ورأسه وكتفه وأمعائه الغليظة والدقيقة وكل عضو من أعضاء جسده. “عدا عضوي التناسلي طبعا”، لكنه في هذه المهنة “الغريبة جدا” ظلّ يتحرك من غير “البطين الأيسر”. الله وحده أعلم ما ظلّ يتفوّه به أحياناً، هذا الأستاذ السابق!

كان شرط اليوناني الوحيد يتمثل في أن يكتسب الصيني خلال فترة العام تلك ما أسماه “عقلية محترف في بلاد متقدمة ككندا”. قال له لا تكثر من الشراب. إذا أقلعتَ عنه تكون قد أوفيت بنصف الشروط الواجب توفرها في محترف. “لا تتحدث كثيرا”. العملاء هنا غالباً ما قد تدفعهم الوحدة القاتلة للحضور. تذكر أن هذه بلاد الحنين إلى أشياء لم يعد لها وجود. “أنا أيضا أفتقد هنا شيئاً ما، يا صديقي. يغلبني الشوق تماماً أحياناً إلى رؤية مياه بحر إيجة وسلسلة جبال بيندوس وتلال جزيرة كريت ورائحة الزعتر البري ومشروب الأوزو”. كن مستمعاً جيداً. كنت أفكر عند هذه النقطة تحديداً أن الصيني أبعد ما يكون من إنسان ما قد يمتلك حسّاً عالياً للدخول مع محدِّثه في سياق شعوري واحد. كان الصيني يمتلك في الواقع وجه دبلوماسي على مائدة مفاوضات شائكة. لا شيء يمكنه أن يُحرِّك عضلة واحدة من عضلات وجهه المتكلّس. لكأن قطعة لينة من الجبص تُركت في العراء وتجمدت. كان الصيني بمثابة الشخص الوحيد في المدينة الذي لم يُطلع أحداً على أسراره في الماضي البعيد. أكد لي جمال مرة أن الصيني ظل يتقمَّص دور الساقي داخل الشقة حتى خلال الأيام التي لا يحضرها المنفيون الآخرون. بدت تلك سانحة طيبة لجمال كخطيب سياسيّ سابق. يتحدث كمذياع في قرية منسيّة وسط أدغال، بينما الصيني يملأ له الكأسات ويضعها أمامه كمحترف. ثم.. فجأة، تعالى صوت جمال:

“هل تعرف مها الخاتم”؟

عينان واسعتان، سوداوان، عميقتان، صافيتان، يزينهما حياء غامض، تتوغل فيهما فتشعر كأنك تتأمّل لؤلؤتين تقبعان خلف قناع على وجه بحيرة هادئة أوقات السحر. قمحية اللون، ضامرة الخصر، ممتلئة الفخذين في تناسق ورشاقة، طويلة، بعيدة مهوى القرط، صدرها مرتفع قليلاً، عنقودا عنب وقت الحصاد، ثمة سلسلة ذهبية تتوسم طريقها صوب مجرى النهدين الضيق العميق. تخال لوهلة كما لو أن أنفاسك تشخص غارقة في قاع المجرى بلا أمل في النجاة. شعرها طويل، أسود فاحم، لكأنه يذوب في وسادة الهواء من نعومة، وقد نسجتْ على جانبيه ضفيرتين، نيليتين، متقنتين، كانتا تسيران متوازيتين كغريمتين، تبدآن خصومتهما من أعلى مقدمة وجهها المستدير في اتجاهين متباعدين، قبل أن تلتقيان عند أسفل مؤخرة رأسها في عناق حميم ووله، ثم.. وقد توحدتا، تأخذان من هناك في تضفير مصيريهما معا، تسقطان برفق قطرات ندى صاف إلى أعلى ردفيها الناريين بقليل. لعلها لم ترنِ مشدوها على ذلك النحو. وقد تجاوزتني ساهمة إلى داخل مكتب الأمم المتحدة. كانت تسير الهوينى مدركة لا ريب حجم الخسائر الكبرى التي تحدثها بتلك المشية. ظللتُ أفكر في ذلك هائماً حول محيط البوابة الخارجي لمكتب الأمم المتحدة ذاك بشارع الفلاح في غربي القاهرة. نازعتني نفسي مراراً على المغادرة، والاحتفاظ بها في هيئتها تلك بين طيات خيالي الداعر ذاك كموضوع سريّ لعادة الليلة بين حيطان تلك الشقة الأرضية الضيقة كقبر، لكنّ شيئا ما ظلّ يبقيني ثابتاً في مكاني عند الثانية الأخيرة، إلى أن أطلت أخيراً مغادرة المكتب، والتقت عيناي بعينيها. قلت ماداً يدي إليها “إزيك”. هذا ما ألهمني به الله بدءا. قالت “مرحبا”. قلت وقالت ووقفتْ تنتظر. لم أدرِ ما أقول بعدها. أخذتُ فقط أرقبها تبتعد عني بخطى بدت بطيئة مترددة.
لحظة أن قررت اللحاق بها، بعد عودة حواسي المتبلدة، كانت وصلت إلى تقاطع شارعي الفلاح وسوريا، وأشارت إلى عربة أجرة. كما لو أن وجهها أطل عبر النافذة الخلفية للعربة مبتسما خطفاً لوجهي الغارق في ذهوله. أتذكر شيئاً مما قلته لها وقالته لي أثناء ذلك الحوار العابر. “اسمي حامد”. قالت “حضوري هنا يتعلق بمسألة لَم الشمل مع أسرتي في لندن”.

قلت:

“المسائل هنا تأكل صبر الجبال كي يتم البت فيها”.

ضحكتْ.

كنت مفتوناُ بغنى اللحظة مقيداً بإحكام إلى أوتاد فقري. تلك إذن كانت مها الخاتم سعيد لحظة أن رأيتها لأول مرة. حين ألقى جمال جعفر ذلك السؤال، صمت أولئك القادمون من القاهرة، فعلوا ذلك معاً، تماماً كما قد تصمت ربات البيوت عند بداية حلقة جديدة من حلقات تلك المسلسلات الدراميّة، وقد بدا حتى مَن تبقى من بين أولئك القادمين إلى كندا عبر كينيا أو أثيوبيا ساكناً، كاتمَ الأنفاس، منتبهاً، وقد أصابته العدوى فأخذ يتطلّع بدوره إلى “الوغد” المدعو جمال جعفر هذا بشيء ما من الحيرة والفضول. لعل تلك التساؤلات لا تزال عالقة في ذهن البعض منهم حول قصة علاقتهما معا، تلك العلاقة التي أضحت في تلك الأيام بمثابة فاكهة لا تنفد على موائد أولئك المنفيين الغرباء على مقاهي القاهرة. ما الذي دعا جمال إذن بعد مرور كل تلك السنوات إلى أن يطرح أمراً خاصّاً كهذا في مجلس عام: “هل تعرف مها الخاتم”؟

عبدالحميد البرنس <[email protected]>
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..