مقالات وآراء سياسية
د. الهادي عبدالله ادريس ابوضفائر 29 سبتمبر، 2024
دماء وأحلام تلاشت بين أروقة الإرادة : صدى الفشل وصمود الأمل وَوجع الاسئلة


د. الهادي عبدالله أبوضفآئر
مسطول معجب بجارته. كان يراها كل يوم ، فتخطف أنظاره بجمالها الهادئ ، وابتسامتها التي تشع دفئاً وطمأنينة. ظل يراقبها من بعيد ، في كل مرة يراها ، كان يخوض في عالم من الخيال ، يخترع حوارات لا تنتهي ، يكتب نهايات لمواقف لم تحدث ، ويتخيل لقاءات مليئة بالحب والأمل. لكن الواقع كان أقسى من أن يسمح له بتلك الأحلام لأنها ست بيت. حتى جاء ذلك اليوم الذي تغير فيه كل شيء. مات زوجها فجأة ، وتحولت أيامها إلى حداد طويل. ومع مرور الوقت وانتهاء عدتها ، رأى المسطول أن الفرصة مواتية ليقترب منها ، فحزم أمره وقرر الذهاب إلى منزلها ليطلب يدها ، وقف أمام بابها ، شعر بأن قلبه قد يخرج من صدره من فرط التوتر. طرق الباب بخفة ، متمنياً ألا تخذله الكلمات التي طالما رسمها في خياله ، (صرمان لاقى قرمان). وحين فتحت الباب ، ظهرت على طبيعتها ، بدون مساحيق ، ولا زينة وجهها خالياً من الروج ، محملة بثقل الأيام والأحزان. في تلك اللحظة، ارتبك المسطول اختفت كل السيناريوهات التي رسمها. وضاعت ، منه الكلمات ، وانسلت من عقله كل المشاعر التي كان يحاول التعبير عنها. لم يجد سوى كلمة خرجت من فمه ، وكأنه يهرب من اللحظة: “المرحوم… أخبارو شنو؟” .
كما جاء ارتباك الرجل أمام جارته يحمل في طياته الكثير من الدلالات التي تنطبق على طبيعة الثورات. مثلما تبدأ الثورة بحماس متأجج في عيون الثوار ، تترافق مع تضحيات جسيمة في سبيل غد أفضل ، تتكشف لاحقاً لحظات من الدهشة والارتباك. تلك اللحظات تأتي حين يجد الثوار أنفسهم في مواجهة مع ساسة انتهازيين ، يلتفون حول مصالح الأمة لتحقيق مكاسب ضيقة وشخصية. عندها ، يبدأ الوعي الثوري في التعمق ، ويدرك المخلصون أن المرحلة ليست مجرد نضال ضد نظام مستبد أو قوى خارجية ، بل صراع داخلي ضد أطماع من يحاولون سرقة النضال. هنا ، تزداد أهمية الوعي ، وتتضاعف الحاجة إلى حكمة ثورية تميز بين أصحاب الضمائر الحية الذين يسعون إلى مصلحة الوطن ، وبين أولئك الذين لا يرون في الثورة إلا فرصة لتحقيق مكاسبهم الخاصة. إنها لحظة فارقة تضع أمام الثوار تحدياً مزدوجاً : مواجهة التحديات الخارجية ، والتصدي للمخاطر الداخلية التي قد تكون أشد خطراً على مسيرة التغيير. وفي خضم هذه اللحظات المفصلية ، يطرح الثوار سؤالا ملحا على أنفسهم يبعث على التأمل. عندها ، يطل سؤال المسطول ، الذي يتردد على ألسنة الكثيرين ،
“المؤسس ، أخبارو شنو؟”
(أكتوبر ، رجب ، أبريل ، وديسمبر) ثورات ضاعت في غفلة من الزمن ، ولكن يبقى الأمل متجذراً في أعماق النفوس ، يزهر بشجاعة ، ويولد العزم من رحم الأحزان. لكن هذه المرة ، يولد بوعي وإدراك أعمق ، إذ يدرك الثوار أن النضال الحقيقي لا ينتهي بالثورة ذاتها ، بل يبدأ بعدها. فالمعركة الحقيقية تكمن في إعادة بناء الحياة ومواجهة الحقائق بعقلانية وصبر. وإن الطريق نحو الحرية والتحرر لا ينتهي بإسقاط نظام أو تحقيق نصر مؤقت ، بل يتطلب مواصلة الجهود لتأسيس وطن قائم على العدالة ، والوحدة ، والمشاركة الفاعلة في صياغة مستقبل أفضل للجميع. عندما يدرك الثوار الغاية التي تتمتع برؤية واضحة ، وقتها يصبحوا قادرين على توجيه جهودهم نحو مستقبل مشرق ، يحقق أحلامهم وينسج قصص انتصاراتهم. إن وضوح الهدف يُعدّ الركيزة الأساسية للنضال ، وهو الذي يمنح القوة اللازمة لمواجهة التحديات. ويعد بمثابة خارطة طريق ، ترسم المسار الصحيح وتساعد في إزالة العوائق وفتح أبواب الفرص الممكنة. من دونها، قد يتبدد الحماس الثوري ، رغم ما يتحلى به الشفاتة والكنداكات من شجاعة ، إلى سلسلة من الفشل. ان الثورة التي تفتقر إلى رؤية واضحة تشبه القبطان الذي يبحر بلا بوصلة وسط محيط شاسع. فامتلاك سفينة قوية ليس كافياً ، بل الأهم هو معرفة الوجهة والقدرة على توجيه تلك السفينة نحو الهدف المنشود ، مهما علت الأمواج واشتدت العواصف.
لقد أرهق الثوار أنفسهم ، نثروا دماءهم وقدموا أرواحهم قرباناً على مذبح الحرية ، ولكن السؤال : ما قيمة تلك التضحيات إن ظل الهدف بعيد المنال؟ كم مرة رأينا كرة الثورة تنحرف عن مرمى التغيير ، أو تتوقف على حافة المرمى ، مصيرها متأرجح بين الجدل والشك؟ حينها يبدأ الحديث ، وتتصاعد الأصوات المتضاربة ، فتتشتت الآراء ، ويضعف الحماس الذي كان مشتعلاً في البداية. فالناس بطبيعتها لا تحتفي إلا بالنصر الواضح والجلي ، الذي يتقن فيه الثوار فن الوصول إلى الهدف ، ويسجلون في صفحات التاريخ تحولاً كبيراً يراه الجميع ، حيث يصبح كل فرد شاهداً على انتصار لا يُمحى ، انتصار ينقش في ذاكرة الأمة بأحرف من نور ويحول الحلم الجماعي إلى حقيقة ملموسة يعيشها الجميع. إنه ذلك الانتصار الذي لا يقتصر على كونه لحظة عابرة في التاريخ ، بل يُرسخ كمعلم ثابت في وعي الأمة ، تراه الأجيال القادمة قبساً من نور يرشدهم في مسيرة التغيير. ان النصر الحقيقي هو ذاك الذي يُغير الواقع بعمق ، ويمنح شعوراً بالانتماء إلى قصة نجاح مشتركة ، تُروى في كل بيت ، وتُحكى كأمثولة عن الإرادة والحرية ، تُذكرنا بأن تضحيات بشة وعبدالعظيم وست النفور وكل الشهداء لم تذهب سدى ، بل أزهرت ثمارها وأينعت في أرض الوطن.
فالسؤال الذي يظل يتردد في الأفق : هل حقا يعرف الساسة أين تكمن تلك الأهداف؟ هل يدركون الوجهة التي يجب أن يسيروا نحوها ، أم أنهم يركضون بلا بوصلة ، تائهين في ميدان شاسع؟ يكتفون باستعراض مهاراتهم في الميدان الثوري ، قد ينجحون للحظة في خطف أنظار الجماهير ، فتُضاء الوجوه بالدهشة ، وتعلو الهتافات إعجاباً بما يرونه من حركاتٍ بارعة ، وكأنهم يشاهدون عرضاً مسرحياً أو مهارات برشلونة. لكن سرعان ما يخفت ذلك البريق ، وينقشع سحر اللحظة العابرة ، ليبقى الجو مشحوناً بسؤالٍ “من خرج منتصراً في نهاية المطاف؟” فالجماهير ، وإن كانت تستمتع بالعروض الآنية ، لا تنخدع بالبريق المؤقت أو المهارات البراقة التي تخلو من الجوهر. انها تنتظر شيئًا أكبر من المتعة اللحظية ، تنتظر النتيجة التي تضع حداً لكل شك ، تلك اللحظة التي تنطلق فيها صافرة الحكم ، مُعلنةً أن الهدف قد تحقق. فالعبرة ليست في العروض الجذابة أو الانبهار العابر ، بل في تحقيق النصر الذي لا يقبل الجدل ، ويتوج الجهود ويُسجل في صفحات التاريخ ، لأن الناس لا تهتف ولا تحتفي إلا بمن يجيد تسجيل الأهداف في مرمى التغيير، ويترك بصمةً لا تمحى. وهكذا ، يبقى السؤال معلقاً بين ثوارٍ لا يزالون يغذون أحلامهم بالآمال والطموحات الكبيرة ، يتقدمون بخطوات مثقلة بالتضحيات ، وبين جماهير تنتظر بفارغ الصبر نتيجة حاسمة تشفي غليل تطلعاتها. وكأن هناك مسافة خفية تفصل بين الطموح والإنجاز ، بين الرغبة في التغيير وتحقيقه فعلياً. تلك المسافة التي تُختبر فيها الإرادة ، وتنكشف فيها الحقائق ليبقى الأمل معلقاً كخيط رفيع بين الحلم والواقع ، وبين العمل والنتيجة ، منتظراً اللحظة التي ستُحسم فيها المعركة لصالح من يجيد اقتناص الفرصة وتحويل الرؤية إلى حقيقة لا جدال فيها.
