مقالات سياسية

أنا في أجتماع!

أنــا فــي اجــتــمــاع!

إذا قُدّر لك أو اضطرتك الحاجة إلى مقابلة أحد شاغلي المناصب الدستورية أو الاتـصال به، في أي وقت، أثناء ساعات العمل الرسمية، من الصباح الباكر حتى آخر الدوام، فسيكون الرد من السكرتارية بأن سيادته في اجتماع، أو تأتيك رسالة من الهاتف المحمول تقول: “أنا في اجتماع الآن”! وحتى نكون منصفين نود لفت النظر إلى أن بعض هؤلاء يرد بعد تكرار الاتصال، في بعض الأحوال، وبعد أن ترسل له رسالة تعرفه فيها بشخصك الضعيف، وتشرح غرضك من الاتصال، مع أن رقمك قد يكون مسجل لديه، فهل يا ترى أن البيروقراطية تتطلب مثل هذه الإجراءات؟ وهل نسي هؤلاء ما كان عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يومئذ أمير المؤمنين، وخليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد كان حينها يحكم أعظم دولة أخرجت للناس ومع ذلك لم يحتجب عن رعيته ولا زواره، بل كان يقابلهم حيثما كان تحت ظل شجرة أو عريشة ويقضي بينهم بالحق، ويتابع أمورهم بكل اهتمام، حتى قال حافظ إبراهيم في مدحه قصيدته التي سارت بها الركبان والحقب:
وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً بين الرعية عطلاً وهو راعيها
وعهده بملوك الفرس أن لها سوراً من الجند والأحراس يحميها
رآه مستغرقاً في نومه فرأى فيه الجلالة في أسمى معانيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها
وقال قولة حق أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت نوم قرير العين هانيها
فقد دخل رسول كسرى على الفاروق دون أن يمر على السكرتارية والحراسة الأمنية المشددة ولم يُطلبْ منه مراعاة البرتوكول المتبع من أجل الدخول على كبار المسؤولين، ودون أن يقل له أحد إن أمير المؤمنين في اجتماع! السؤال الذي يطرح نفسه هو ما الداعي لكل هذه الاجتماعات المتكررة؟ السبب الأول، حسب وجهة نظري، أو إن شئت فقل حسب واقع الحال، هو أن كثيراً من الدستوريين يجمعون بين مناصب ومواقع مختلفة، منها ما هو متعلق بالوظيفة وما هو تنظيمي، من المفترض أن يخصص له وقتاً منفصلاً عن ساعات الدوام الرسمي حتى يتمكن الشخص المسؤول من القيام بواجبه تجاه المراجعين من المواطنين وأصحاب المصالح الفعلية! بصراحة معظم هذه الاجتماعات غير ضروري وغير مناسب من حيث التوقيت؛ لأنها تتعارض مع مبادئ المسؤولية الأخلاقية المنوطة بأصحاب المناصب الدستورية على كافة المستويات! علينا أن نضع في الاعتبار أن بعض المراجعين قد يكون من كبار السن وقد يكون تكبد عناء السفر لمسافة طويلة، وجاء راجلاً أو على ضامر من فج عميق، أو من منطقة نائية، ويأتي ليجلس لساعات طوال في انتظار أن يجد فرصة لمقابلة سيد فلان، ولكنه يفاجأ بأن سيادته في اجتماع؛ ولذلك عليه أن يعود مرة أخرى أو في وقت لاحق! هذا لعمري عدم مراعاة لظروف الناس وإهدار للوقت في اجتماعات معظمهما لا طائل منه وقد يكون لمجرد “الونسة” أو مناقشة أمور لا تمت للمصلحة العامة بصلة، سيما وأن ذلك الوقت مدفوع الأجر ويجب أن يحاسب عليه الشخص المسؤول. من جانب آخر، بعض الأعضاء المنتمين للأحزاب لا يروق لهم شيء مثل زيارة المسؤولين أثناء ساعات العمل الرسمي، بغرض أو لترتيب أمور تتعلق بمصالحهم الخاصة، ويجلسون لساعات طوال على حساب المواطن البسيط، وهذا بكل تأكيد استهتار وتصرف غير حضاري لا يحدث إلا في بلاد العالم الثالث، إن بقي هنالك شيء من هذا القبيل. طبعاً لا أستطيع الحديث عن كثرة المؤتمرات واللقاءات التي تخصص لها المبالغ المهولة وتحجز لها الفنادق الفاخرة في العاصمة وغيرها ويتوافد إليها الدستوريون من كل حدب وصوب وتكون بمثابة موسم للقاء كبار المسؤولين في الدولة والشخصيات العامة دون أن يأبهوا لما ينفق في تلك المناسبات، وما أكثرها، من أموال على حساب الميزانية العامة. ولا مجال هنا للحديث عن حضور المؤتمرات الإقليمية والدولية وما يرتبط بها من صرف بذخي دون مراعاة لحال البلاد التي هي بحاجة لكل دولار يصرف بلا مبرر! ومما يلاحظ على هذه الشاكلة من المؤتمرات أن كل مسؤول، مهما كانت مرتبته، يحرص على اصطحاب عدد من المرافقين والمستفيدين من مدراء مكاتب وصحفيين وغيرهم من ذوي الحضور اللازم من أجل الأبهة والفخامة، وقد يصطحب المسؤول الدستوري الزوجة الثانية من أجل التسوق واستكمال متعة السفر. وليس بعيداً عن الأذهان مطالبة إحدى الوزيرات بتذاكر سفر بالدرجة الأولى لزوجها ليرافقها في رحلة خارجية وقد تحدثت بعض الأوساط عن الحادثة في حينها. يا حضرات السادة نحن نعلم أن هنالك اجتماعات ضرورية لتسيير دولاب الحكم، على كافة المستويات، لكن أن تصبح الاجتماعات، التي لا طائل منها، هي الأولوية في عمل الدستوريين؛ فإن ذلك أمر مستغرب ولافت للنظر. إن الدول لا تبنى بكثرة الاجتماعات بل بالعدل والعمل والتنمية والإنتاج والحرص على المصلحة العامة والشفافية والإخلاص.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..