مقالات سياسية

ديمقراطية توكفيل ابنة القيم والتشريعات والقوانيين

طاهر عمر

زار توكفيل امريكا عام 1831 لمهمة كلف بها فاذا به يقع في حبه للديمقراطية الامريكية وأول ما لفت انتباهه هو كيف نجحت امريكا في تحقيق ديمقراطية  قد فشلت فيها دول القارة العجوز أي الدول الأوروبية؟ وتعجب توكفيل من أمر امريكا في أنها نجحت في أن يتذوق الشعب الامريكي حلاوة الديمقراطية دون أن يمروا بعذابات الثورة كما هو حادث في بلده فرنسا.
أيقن توكفيل بأن الديمقراطية الأمريكية هي أبنة القيم والتشريعات والقوانين وهي تختلف عن مسيرة دول أوروبا في سيرها نحو الديمقراطية عن طريق الثورة وعذاباتها ومعروف أن توكفيل له موقف من الثورة الفرنسية بسبب أسرته فالثورة الفرنسية قد قضت على آمال طبقته ومحت وجودها من التاريخ مثلما فعلت ثورة ديسمبر الآن في السودان و قد محقت خطاب الحركة الاسلامية السودانية ونخبها الفاشلة وقد جعلتهم في موقف المفضوح الذي يحاول يائس الوقوف امام مجئ قيم الجمهورية.
ولكن إختلاف توكفيل من نخب الحركة الاسلامية أنه يعرف أن المستقبل البعيد للانسانية كافة هو كيف تضبط مسيرة الانسانية عبر معادلة الحرية والعدالة ولا يشك لحظة أن مستقبل البشرية ديمقراطي ومنفتح على اللا نهاية وليس كما يعتقد فكر أتباع أحزاب اللجؤ الى الغيب وعليه ننصح أتباع الحركة الاسلامية أن يسيروا على طريق توكفيل وقد كان له موقف من الثورة الفرنيسة ولكن لم يحجبه من معرفة أن لا طريق غير طريق معادلة الحرية والعدالة المؤدي للديمقراطية حيث يصبح الدين شأن فردي لا يحتاج لهوس ديني وأن البشرية قد بدأت مسار نزعتها الانسانية وقد فارقت كل فكر يحاول يائس تحقيق فكرة الدولة الارادة الالهية.
موقف توكفيل من الثورة الفرنسية التي محقت طبقته لم يمنعه من أن ير بأن طريق البشرية يسير باتجاه فكرة الانسان التاريخي والانسانية التاريخية ولا شئ يمنع البشرية من تحقيق قيم الجمهورية حيث تصبح حقوق الانسان ليست سياسة بل قاعدة فيها نقطة الانطلاق ونقطة الوصول ولا يكون ذلك بغير الشرط الانساني وهي السياسة ولهذا كان تسأول توكفيل وإندهاشه في كيفية تحقيق أمريكا لديمقراطية حققت قيم الجمهورية في حينها قد فشلت الديمقراطية في الدول الاوروبية.
لكن توكفيل كان يدرك بأن وراء نجاح الديمقراطية في أمريكا كان تحقيقهم لفكرة العدالة والمساواة وهي أن امريكا قد إستوعبت فلسفة جون لوك قبل الاوروبيين وخاصة  فكره في رسالة في التسامح وفيها يرى أبو الليبرالية بشقيها السياسي والاقتصادي بأن الفكر الديني خطر على الحريات ولا يمكن أن نتحدث عن التسامح في ظل خطاب ديني أي دين فهل فهمت النخب السودانية مدى جبنها وكيف تشيح بوجهها دوما عن العلمانية وليس لها القدرة على مقاربة مسألة العلمانية ولا حل غيرها لبلوغ السودان الى عتبات الدولة الحديثة ويحول ما بيننا والدولة الحديثة ايماننا التقليدي الذي لا يؤمن بالمساواة ما بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بالميراث وهنا تنام الانساق الثقافية المضمرة التي تقف كجبار الصدف ما بيننا وتنمية ثقافة تنتج نظم ديمقراطية و لهذا نجد النخب السودانية متشابه لا فرق بين الكوز والشيوعي السوداني الذي يتماه مع ايمان المجتمع التقليدي ويتحدث عن علمانية محابية للأديان كما رأينا حوار حول الدولة المدنية.
يقول جون لوك لا يمكن أن يكون هناك تسامح ولا حديث عنه بدون فصل الدين عن الدولة وكان يقول بأنه لا يعني بذلك أنه يدعو للإلحاد بل يؤكد بأنه كان يمقت الإلحاد بقدر مقته لعدم فصل الدين عن الدولة وهنا تحتاج النخب للشجاعة النادرة التي يسبقها الرأي والفكر وتدخل بعدا انسانيا لفهم النصوص الدينية. وهذا ما قام به أمثال مارتن لوثر وتحدث عنه ماكس فيبر حيث لم يعد للدين سحره عندما تحدث عن زوال سحر العالم حيث يصبح الدين في مستوى دين الخروج من الدين كما يقول مارسيل غوشيه وحينها تصبح مسألة المساوة بين الرجل والمرأة في الميراث تحتاج لفهم ذو بعد انساني يؤسس للديمقراطية لأننا بإختلاف نسب ميراث الرجل والمرأة وفقا لايماننا التقليدي لا يمكننا ان نؤسس لديمقراطية بمعناها الحديث بايماننا التقليدي الذي لا يؤمن بمساواة الرجل والمرأة في الميراث .
لهذا نجد أن الشعب الامريكي قد فهم فلسفة جون لوك وكان الفصل للدين عن الدولة وقد أصبح الدين شأن فردي ولكن توكفيل يوضح لنا كيف إقتنع الامريكي بأن الدين أمر فردي ولا يحتاج لتجار الدين؟ أصبح ذلك مقبول بعدما قبل الشعب الامريكي بفكرة العدالة والحرية هذا ما جعل كل فرد ينعزل ولا يضع إعتبار لخزعبلات رجال الدين لأن مسألة المساواة بينك والآخرين تجعلك تركز على نجاحاتك الفردية مع الاحساس بأن هناك مسؤولية إجتماعية يقوم بها المجتمع نحو الفرد وقد تطورت الى أن وصلت لمفهوم الضمان الاجتماعي الذي يسود في جميع الدول الغربية الآن.
قد يخطر ببالك سؤال كيف فرح توكفيل بالديمقراطية في ذلك الزمن البعيد وكانت هناك ممارسة الرق وعدم إعتراف وظلم للمرأة ولهذا كان توكفيل يأمل في حل كل تلك المعضلات لأن الديمقراطية مفتوحة الى اللا نهاية وعبر الزمن يمكن للانسانية أن تتخطى مشاكلها فمثلا مسألة العنصرية والرق وظلم المرأة كانت ليست خافية على توكفيل ولكنه كان مندهش بنجاح الديمقراطية في امريكا وفشلها في اوروبا في ذلك الزمن.
حال توكفيل قبل ما يقارب القرنيين كحال السودان وهو يتوق للديمقراطية وها هو الشعب قد أنشد شعارها حرية سلام وعدالة ومستقبل شعار ثورة ديسمبر في المدى البعيد كما حديث توكفيل عن مستقبل الديمقراطية وكيف كان مفتون بالشعب الامريكي الذي قد حقق طرقها وحينها كانت الدول الاوروبية لا تعرف الطريق للديمقراطية ولكن حديث توكفيل عن الديمقراطية الامريكية كان حديث فيلسوف وعالم اجتماع ومؤرخ فتح الطريق الى فهم كيف تذوّق الشعب الامريكي حلاوة الديمقراطية دون أن يمر بعذاب الثورة ها هو الشعب السوداني يدفع بلا كلل ولا ملل الدم والعرق والدموع في سبيل تحقيق نظام ديمقراطي ليبرالي يفتح على أعتاب الدولة الحديثة إلا أن النخب السودانية ما زالت غائصة في وحل الفكر الديني ولا تقدر أن تتحدث عن العلمانية وبغيرها لا يمكن أن نتحدث عن نظام ديمقراطي ليبرالي.
وبقى أن أقول بأن جون كالفن يعتبر الأب الشرعي لسعر الفائدة متحدي تراث يهودي مسيحي متراكم على مدى ثلاثة ألف سنة كان يرى بأن التجارة عمل غير أخلاقي ولكنه بعد إدخال البعد الانساني على النصوص الدينية قد أصبح بالامكان الحديث عن سعر الفائدة وقد أنفتح الباب عبر عقلانية البروتساتنتية الى انتصار الفكر اللبرالي وهذا ما نريد أن ننبه له النخب السودانية وخوفها من مجابهة الخطاب الديني الذي تروج له أحزاب اللجؤ الى الغيب من أحزاب طائفية وسلفيين وأتباع الحركة الاسلامية فلا يمكن ان تتخفى النخب السودانية تحت لافتات مؤتمر دستوري وغيره من الجبن الذي يجعلهم لا يستطيعون قبول فكر العلمانية وبغيرها لا يمكن الحديث عن تحول ديمقراطي مثلما تحدى جون كالفن تراث اليهودية والمسيحية عن الربا وأسس لفكرة سعر الفائدة تحتاج النخب السودانية لعقلانية تؤسس للمساواة بين الرجل والمرأة بعيدا عن فكر الايمان التقليدي. وأخيرا نجد ان جون اتيورت ميل قد تحدث عن ديمقراطية توكفيل وهو في غاية البهجة بان توكفيل اول من تحدث عن الديمقراطية بمعناها الحديث حيث يصبح علم الاجتماع بعد معرفي يفتح مستقبل البشرية على اللا نهاية أما في زمننا فلا يمكن إهمال إعجاب ريموند أرون الذي إستل أفكار توكفيل من قلب النسيان وهزم بها أفكار ماركس.

[email protected]

‫2 تعليقات

  1. لماذا لا نؤسس لديمقراطية مستمدة من التراث السوداني والتي من ضمنه “الميراث الاسلامي” الضخم دون أن تجعلنا تجربة الإنقاذ الاستبدادية الفاشلة المجانبة لاعراف وقيم المجتمع السوداني نلجأ لحلول مشاكل الديمقراطية عند توكفيل او جون لوك والذين هم عاشوا في واقع غير واقعنا ، فالديمقراطية نجحت في الهند دون أن تسلبها هويتها الثقافية والاجتماعية.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..