
كلما ممرت على منطقة (السوق العربي) ومواقف المركبات العامة بميدان جاكسون واستاد الخرطوم في رحلة الإياب إلى المنزل نهاية كل يوم، تتراءى أمامي تلك الصور والمشاهد التي رسمها الشاعر الراحل محي الدين فارس عبر قصيدته الشهيرة “لن أحيد” ..!! فهناك وعند “المغيب” تتراءى وتتحرك من حولنا هياكل وأشباح من رجال ونساء وشيوخ وأطفال يصارعون الظروف ..ويتحدون قساوة البحث عن العودة الآمنة إلى الديار ..!!
فهؤلاء كما قال محي الدين فارس ..أسراب من ضحايا ..كادحون ..عائدون مع الظلام من المصانع والحقول والمشاغل والمتاجر ..ملأوا الطريق ..!!
عيونهم مجروحة الأغوار زابلة البريق ..!! يتهامسون ويهمهون ..مثقلون بالهموم ..وخلفهم هناك عند العودة تنتظرهم (أفواه) جياع ومرضى ومشردون .. فقد نفد المخزون اليومي أو ربما فشل في أن يكافي التزامات الأسرة بحدها الأدنى ..!!
نعم هم الشعوب (الكادحون) ..ملح الأرض ووقود الماكينات التي تدير حركة (النخب) وقادة السلطة بلا مقابل ..ولكن هؤلاء الكادحين من الفجر إلى (المغيب) ..يتشبثون بالحياة وربما يستمتعون بأقدارهم ..تحملهم آمالهم ورجاءاتهم إلى حلمهم القادم وأشواقهم المرسومة على (أجنحة ثورة) مهروها بالدماء والدموع ودفعوا (عربونها) كاملاً عشماً في دولة راشدة وحرية مكفولة ومعيشة آمنة واقتصاد معافى ..!! فهل سقط العشم ..؟
وغداً نعود ..وحتماً نعود كما تنبأ (شاعر لن أحيد) ..!! للقرية الغناء ..للكوخ الموشح بالورود هكذا يتحدثون بضمائر حية لا تستكين إلى ولا تلين ..!!
هكذا نحن وهم .. فهناك صورة أخرى عن (حكامنا) وقادتنا كما رسمها (محي الدين فارس) ..فهناك قافلة تولول في متاهات الزمان
وبلا دليل ..وبلا بصير ..!!
عمياء لا تبصر الصور الموشحة بالدماء والوجوه فاقدة الابتسام
تمشي الملايين الحفاة العراة الجائعون مشردون
في السفح في دنيا المزابل والخرائب ينبشون
والمترفون الهائمون يقهقهون ويضحكون
يمزقون الليل في الحانات في دنيا الفتون ..!!
ولو أن الشاعر الراحل محي الدين فارس حي بيننا لكتب ألف قصيدة باكية عن حياة هؤلاء الكادحين ..ولكتب ألف قصيدة أخرى عن هؤلاء الصامتين الأعمياء الذين لا يرون ولا يسمعون ولا يتحدثون عن كل هذا العناء والشقاء والبؤس الذي بات واقعاً لا فكاك منه في ظل حكام ربما يقودوننا إلى مزيد من المهالك والمزالق ..!!
فالضائقة المعيشية والاقتصادية أحكمت قبضتها تماماً على الرقاب ..أما الحكومة بكل أطيافها ومكوناتها المدنية والعسكرية لم يفتح الله لها برجل (رشيد) يحكي لهذا الشعب المغلوب على أمره (قصة هذا البؤس والشقاء) ..وماذا هم فاعلون بشأنه؟ هل يرحلون ..أم يتشبثون بكراسيهم ..؟ ..يبدو أنهم لا يبالون ..فإن لم يتم التدارك الآن حتماً ستغرق السفينة وينهد (المعبد) بكل من فيه ..!! أيها السودانيون قوموا إلى ثورتكم يرحمكم الله ..!!
(الحراك السياسي 29/5/2021)