فقه (من اشتدت وطأته وجبت طاعته)

فقه (من اشتدت وطأته وجبت طاعته)
معلوم أن الفقه الاسلامي نشأ في كنف أقوى امبراطوريات حكمت العالم (وهذا ليس قدحا في أئمة الفقه ولكنه تصوير لواقع مرير عاشوا فيه)، وكثير من مسائله كان استجابة لضرورات تلك المرحلة (الاستثنائية) حيث كان ذوي الأصول العربية هم الملوك والمسلمون وغيرهم موالي، فلذلك تجد الفقه يغلب عليه مفهوم الطاعة العمياء وفقه المغازي والخراج والجزية وتطول فيه أبواب فقه العبيد والإماء والمرأة الناشز وأحكام القوامة، وبالمقابل تغيب عنه المبادئ العامة للاسلام التي جاءت تحديداً من أجل تحرير هذه الطبقات المستضعفة، والتي تدعو لأداء الأمانات إلى أهلها وحفظ العهود والمواثيق.
من منا لم يقرأ هذه العبارة في كتب الفقه والتي تأتي بصيغ متنوعة:
(ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد كانوا اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة بأي وجه كان … أو غلبهم بسيفه حتى صار خليفة وسمي [أمير المؤمنين] وجبت طاعته وحرمت مخالفته)
هذه الصياغة التي تنسف مبادئ العقل، تبدأ بالطاعة للمتغلب وتنتهي بالطاعة لقاهر المتغلب. ليصبح الامر سفك للدماء ليس إلا، ولا مكان للشورى التي جعلوها معلمة وليست ملزمة.
من هذا المعين تمتح داعش فتاواها، فحقيقة الأمر داعش متبعة وليست مبتدعة كما يصور لنا ذوي الجلابيب البضاء واللحى السوداء، وذلك لأنك عندما تخرج على الحاكم فإما أن تسفك كافة الدماء وتقف على الجماجم والأشلاء تحت اسم أمير المؤمنين، وإما أن الحكم بأنك خارجي ومرتداً، ليس في عنقك بيعة للحاكم.
فجعلوا مفهوم الحرية لا ينهض في عقل المسلم إلا مقابل مفهوم الرق، وأي ممارسة لحرية الفكر أو التعبير أو الاعتقاد إنما هي خروج على إجماع جمهور الفقهاء، وكل آية تدعو للحرية في النظر والفكر والاعتقاد والتسامح وتنفي عن الدين الاكراه هي بالضرورة منسوخة ويتم الترتيب لذلك بطرق عدة.
فخرج المسلم شائه خانع مستسلم لفعل الزمن كالصخرة الصماء، لا إرادة له، كل شئ قد سُطِّر وهو لمَّا يخرج بعدُ من بطن أمه، جسد متهالك لا حياة فيه، يسير بلا هدي بحثاً من مرشد أو داعية يعطي لحياته البائسة معنى، وليلتمس بعض الفتاوى التي تحرم ما أحل الله حتى يرضى بشقوته، ويكفر بنعم الله التي تتمتع بها (طبقة الخاصة) من الدعاة والمرشدين وأربابهم من الساسة المفتونين، الذين بحسب زعمهم يملكون الدنيا ولا تملكهم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وإنما الخوف والحزن على (طبقة العامة) من الدنيا لأنها ستفسد أخلاقهم وتسفه احلامهم.
إذن كان لزاماً على المسلم والحال كذلك، أن يستغرق في حالة تأنيب ضمير في كل ما يفعل، سواء داخل دائرة المباح الواسعة التي تركها الشرع لإعمال العقل، أو المقيد جداً وهو محدود معدود، فليلزم كل حركة وسكنة إذن (اسم الدلع فتوى) من رجال الدين، ولا أمل له في الخلاص من بؤسه إلا بمزيد من المعاناة ومزيد من الخنوع والخضوع للابتلاء تحقيقا لمقولة المؤمن مصاب وإذا أحب الله عبداً إبتلاه، حتى انكسر عزمه، فإن هو فكر في الأمس بكى من ذنوبة المزعومة وإن هو فكر في الغد كفر، فالغد من شؤون الغيب ومن اهتم برزقه فقد كفر.
فتم الاجهاز بالكلية على كافة القيم الانسانية التي تخاطب الفرد في فرديته وتعلي من تمايزه واختلافه ومن همته التي إن طالت الثريا لنالها كما جاء في الأثر، ولكن تم إعادة (خرط) كل كيانه ليكون ترساً في آلة الجماعة والأمة التي لا تقبل التجزئة ولا تعترف بمبدأ الحرية والذاتية إلا في حدودها الضيقة جداً وهي ما يقابل العبودية ليتم تكريس مبدأ (لا تعترض فتنطرد).
ومن هنا تم توظيف هذا الفهم (الكسروي) في بناء فقه السلطان وتكريس ألوهيته والرضاء ببطشه وطيشه وعسفه وسرقته ولهوهه طالما لم يظهر منه كفراً بواحاً، وإن ظهر الكفر البواح فلنجهد في تأويله ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
فمتى سنخرج من هذا الركام لنصبح كائنات لها تراث بدل أن نكون كائنات تراثية كما نعتنا العلامة عابد الجابري.
صديق النعمة الطيب
[email][email protected][/email]