النزعة الوطنية في الشعر السوداني

محمد نجيب محمد علي-الخرطوم

صدر عن مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأمدرمان الأسبوع الماضي كتاب “النزعة الوطنية في الشعر السوداني.. دراسة تطبيقية في شعر مدرسة الغابة والصحراء” للدكتور الباشا برشم، الذي استند في مؤلفه على مرجعية شعرية سودانية فصيحة وعامية، كانت بمثابة الخيط الموجه له في بحثه عن الوطنية داخل الشعر السوداني.

ويُلاحظ عدم نزوع المؤلف نحو المدلول الإجرائي في التمحيص لحقبة دون أخرى، بل تتبَع الناظم َ الوطني وتأثيره على شعراء كل حقبة على حدة، من العصر المروي والكوشي القديم والفترة التركية والمهدية والاستعمار البريطاني حتى مرافئ الغابة والصحراء، والتي تمثل أهم مدرسة فكرية شعرية ظهرت في السودان وتناولت سؤال الهوية.

فهذا البحث يعنى بالنظر إلى تاريخانية وسمات مدرسة الغابة والصحراء وعلاقتها بالمذهب الواقعي، حيث جعلت من الأدب أداة لخدمة المجتمع وقضاياه، وكانت سمات هذه المدرسة شعريا الانسجام بين الشكل والمضمون وألا يكون الاختصار على التذوق الجمالي.

وفي سؤال للجزيرة نت حول جدل الهوية في الساحة الثقافية السودانية يقول الدكتور الباشا برشم “بما أننا نضع في العروبة رِجلا وفي الأفريقانية رِجلا فلا يمكن التحيز لفئة دون الأخرى كمكونات للهوية السودانية”، داعيا إلى اعتماد السودانوية كمعرّف ومرجعية لتعريف السودان في محيطيه العربي والأفريقي.

وحدة نيلية
يرسم الكاتب برشم لوحة النيل في أرض السودان، وتغني الشعراء به وبطبيعته واتخاذهم له كمثال يحتذى في وحدة الوطن وتماسك البنية الواحدة لبلوغ أصعب الأهداف وأعسرها مشقة ونصبا، ونبذ كل ما يبذر من بذور الفرقة والتفكك.
ويستشهد بقول الشاعر الناصر قريب الله:
إذا أوغل الظلم في شطيك وسامهما عقدة لا تحل
فإنهما شيدا وحدة تبشره بانتهاء الأجل

ويأخذ من الشاعر محي الدين فارس:
يا نيل طبعك أن تسخو لذي ملق في كل يوم له عزاة واللات
وطيورك ما عادت تضاحكني إذا ضحكت ولا تلك الرباوات

كما يجادل الكتاب الحنين إلى الديار كضرب من ضروب الوطنية في أشعار الذين ذهبوا إلى المنافي والغربة من الشعراء السودانيين، أمثال الدكتور حسن عباس صبحي وعبد الرحيم أبو ذكرى والزين عباس عمارة وأمير المهاجرين محمد مفتاح الفيتوري، وذهب إلى أن العوامل التي أدت إلى هجرة الأدباء والشعراء هي ظروف الحياة الضاغطة، وأن الغربة تقود الشاعر في صحوه وتركيزه إلى عاطفة الحنين، مما يؤجج العواطف ويلهب المشاعر مع الإحساس بالوحدة وألم الفراق.

يقول الشاعر الدبلوماسي محمد المكي إبراهيم:
سأعود لا إبلا وسقت ولا بكفي الحصيد روائعا
مدوا بساط الحب واغتفروا الذنوب
وباركوا تلك الشهور الضائعه

مدرسة الغابة والصحراء
ويرى الباحث الدكتور الباشا أن مدرسة الغابة والصحراء إذا كانت نموذجا للتناغم بين الثقافتين العربية والأفريقية، فإن أمدرمان نموذجا للسودانوية، إذ انصهرت فيها معظم الثقافات السودانية على اختلاف مصادرها وتنوع بيئاتها.

ويؤكد الكاتب في تتبعه لأشعار دولة الفونج تأثير مناخ القرآن الكريم والتصوف على الشعر، ويذهب إلى أن الشعراء لم يحتلوا مكانة بارزة في ذلك العصر ويستدل برأي الشاعر المجذوب الذي قال بأن الشعر إبان عهد الفونج كان تقليديا ركيكا، وإنه ولد في اللهجة الدارجة السودانية فألفه الناس ثم ارتقى في يسر إلى الفصحى.

وأبان الكاتب أن الصفة الشعبية التي لازمت الثورة المهدية انعكست في سهولة الأساليب التي استخدمها الشعراء، وكان حرصهم على إنارة الأذهان بالمفاهيم الجديدة واجبا قوميا فتحاشوا التعقيد ونظموا على الأوزان الخفيفة، وكثر في شعرهم استخدام ألفاظ استدعتها حاجة النضال الديني كالجهاد والعماد والمهج، والنفس العلية، المختار والخليفة والقادة وغيرها من الألفاظ الدالة على أفكار المهدية وأدبياتها.

مفاهيم الشعر الوطني
ويقيم الدكتور الناقد عز الدين ميرغني للجزيرة نت كتاب النزعة الوطنية في الشعر السوداني معتبرا إياه دراسة قيمة عن مدرسة الغابة والصحراء التي لم تجد حظا كبيرا في الدراسات النقدية، ومرجعا هاما لدراسة كل تاريخ الشعر السوداني منذ “السلطنة الزرقاء” وحتى العهد الحديث.

بينما يرى أستاذ النقد بالجامعات السودانية الدكتور مصطفى الصاوي أن هذا الكتاب استطاع أن يؤرخ ويرصد بدقة لمفاهيم الشعر الوطني، وقد صنفه إلى أكثر من تصنيف مثل الوطنية المكانية والقطرية والعرقية والثورية، ثم عرض لمفهوم الوطنية في شعر مدرسة الغابة والصحراء، معتبرا أن إشارات الكاتب استطاعت أن تغطي مفهوم الغابة والصحراء.

وأشار الصاوي إلى أن تطبيق البحث كان مناسبا على الشعراء النور عثمان أبكر ومحمد المكي إبراهيم ومحمد عبد الحي، مضيفا أن “هذا الكتاب جاء في وقته فنحن حتى الآن لم نحسم قضايا الهوية وهي قضية مركزية لا نستطيع أن نحل مشاكلنا الآنية إلا إذا سبرناها”.

بينما يذهب الناقد عامر محمد أحمد إلى القول بأن الشعر السوداني لم يكن في كل مراحله الوطنية بعيدا عن حركة المجتمع بل يمثل وعيا ثقافيا متكاملا بالهوية، مضيفا أن الانكسارات والخيبات التي أعقبت تأسيس الدولة الوطنية قد طرحت الوطنية في مقابل تنازع الهوية مما أحال الشعر والأدب إلى حالة متنازعة الوجدان، وأكد أن هذا البحث يؤسس مسارا مختلفا في قراءة الشعر السوداني.

المصدر : الجزيرة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..