بناء الدولة السودانية ما بعد الصراع

السر العجمي
تعاقبت علي السودان في فترة ما بعد الاستقلال أنظمة حكم منها عسكرية وديمقراطية وفترات انتقاليه، وان كل هذه الانظمة التي تعاقبت علي حكم السودان فشلت في بناء الدولية السودانية حيث ظلت القوي السياسية في الفترات الديمقراطية والانتقالية تركز علي صراعاتها مع بعضها البعض حول السلطة وتتجاهل تماما قضايا بناء الدولة. وبحكم أن السودان اشتهر بالصراعات والحروب الداخلية، الا انه في تسويته لهذه الصراعات نجده انه يتبع الاسلوب الافريقي في حل الصراعات الداخلية ، وايقاف الحرب وهي مشاركة الجهات التي تقود الصراع ضد الدولة في السلطة ، والثروة ، حتي أن كل اتفاق سلام تم عقده في الحروب الداخلية ، كان سلاما منقوصا، ولم يحقق هدف بناء الدولة ، لذلك تتجدد الصراعات. واخرها الصراع الاخير بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع. لاسيما ان هذه الصراعات أثرت في سيادة الدولة وقدرتها علي احتواء ما بداخلها من اختلافات ، مما جعلها في مصاف الدول الفاشلة التي تحتاج الي اعادة البناء. آو يمكن ان يقال في مصاف الدول الهشة حيث تعد الهشاشة اكثر المفاهيم المنتشرة في الادبيات السياسة للدلالة علي حالة الضعف والانكشاف والقابلية للانكسار اذ توصف الدولة بانها هشة عندما لا تستطيع اداء وظائفها ، أو تبسط سلطتها علي اراضيها. او تلبي تطلعات مواطنيها.
فعملية بناء الدولة المقصود بها احداث تغيرات جزرية علي بنية مؤسسات الدولة كي تتمكن من اداء وظائفها الامنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية بكفاءة تستند الى الشرعية والرضا المجتمعي.
ويعرفها فرانسيس فوكو ياما بانها ” تقوية المؤسسات القائمة وبناء مؤسسات جديدة فاعلة وقادرة علي البقاء والاكتفاء الذاتي، ما يعني ان بناء الدولة هو النقيض لتحجيم الدولة وتقليص قدراتها” وهذا المعني يحيل عملية بناء مؤسسات الدولة واجهزتها علي اطر قانونية منبثقة من الواقع للقيام بالوظائف التطورية للنظام من تغلغل وتكامل وولاء والتزام ومشاركة وتوزيع وتجسير الفجوة بين الحكام والمحكومين وصولا الى تحقيق الاستقرار السياسي.
و لكن لابد من الاشارة الى ان هناك ارتباط وثيق بين بناء السلام و بناء الدولة، فلابد من بناء السلام اولا، وذلك لان بناء السلام يقوم علي طبيعة بنائية وتتعلق بإعادة بناء الدولة ومؤسساتها الامنية ، والسياسية ، والقضائية، والاقتصادية المدمرة في مرحلة ما بعد الحرب. والملاحظ أن كل الحكومات التي تعاقبت علي السودان ووقعت اتفاق سلام مع الحركات الداخلية التي دخلت معها في صراع، قد فشلت في بناء السلام وهذا بالضرورة ادي الي الفشل في بناء الدولة، حيث كانت الحكومات تركز في بناء السلام علي تحسين الاوضاع في المناطق المنخرطة في الصراع من خلال نزع السلاح والتنمية الاقتصادية، دون ان تولي الاهتمام الكافي لبناء الابنية والهياكل المؤسسية الضرورية لتشكيل حكومات فاعلة ، وتأسيس اقتصاد يساعد علي بناء سلام دائم ومستقر. ويرجع ايضا سبب الفشل من خلال الجهات الدولية والاقليمية التي تلعب دور في الوصول الي اتفاق السلام حيث ان هذه الجهات ايضا لا تهتم ببناء الدولة بقدر ما يكون اهتمامها دوما وقف الحرب وذلك من اجل الاستقرار والحفاظ علي السلم والامن الدوليين.
ويشتمل بناء الدولة علي الابعاد التالية:
1- البعد السياسي والدستوري :
ويعني تأسيس نظام سياسي قوي، وسلطة سياسية فعالة قادرة علي ادارة شؤون البلاد، وقادر علي اقامة مؤتمر دستوري تشارك فيه كل القوي السياسية والاجتماعية وذلك من اجل مناقشة هويه القومية للدولة وتحديدها، وذلك لان هذه المسألة هي احد اسباب ازمة السودان الوطنية. حيث ان سودان ما بعد الاستقلال ، وضع الدين في مواجهة الهوية الوطنية واستند الي الاسلام واللغة العربية، في بلد متعدد الديانات والاعراق والثقافات. ولكن في الاواني الاخيرة بدء الاعتراف بالتعدد والتباينات العرقية والدنية واللغوية. حيث حصل اتفاق عام علي ذلك من قبل كل النخب السياسية في مؤتمر اسمرا للقضايا المصرية،(1995) وفي اعتقادي أن حسم مسالة هوية الدولة اصبحت ليست بالأمر الصعب ، ويمكن ان تحسم بكل سهولة من خلال المؤتمر الدستوري. ويشمل البعد الدستوري علي وضع دستور دائم ينظم العلاقة بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ويضمن تمثيل قوي الثورة الحقيقة ولجان المقاومة وكل القوي العرقية في النظام السياسي، ويؤسس لدولة تحترم سيادة القانون، ويقر قواعد وترتيبات جديدة لتداول السلطة وطبيعة نظام الحكم. ويجب أن يكون هذا الدستور عند صناعته ان لا تنحصر صناعة الدستور في النخب وفقهاء القانون الدستوري بمعزل عن المواطنين، بل يجب أن يشارك كل المواطنين في صناعة الدستور، وذلك لان مشاركة كل المواطنين في صناعة الدستور تساعد علي بناء التوافق وبالتالي توقف الصراعات الداخلية نهائيا.
2- البعد المؤسسي:
وهو الاهم في عملية بناء الدولة، ذلك أن بناء المؤسسات أو أعادة هيكلتها هو الضامن الاساسي لعملية إعادة البناء برمتها، بينما يؤدي غياب الاطار المؤسسي الي انهيار الدولة او فشلها في اداء وظائفها ، ولو بعد حين، ولن تستقيم عملية البناء الا بعودة مؤسسات الدولة للعمل مرة أخري ، تحت قيادة وطنية حكيمة قادرة علي فهم الادوار المنوط بها هذه المؤسسات. حيث أن التعويل علي مؤسسات الدولة ودرجة تماسكها الداخلي وقدرتها علي الوفاء بالتزاماتها الخدمية تجاه مواطنيها هو الاساس لقياس قوة الدولة.
3- البعد العسكري والامني:
يشمل عدد من المهام، يأتي في مقدمتها بناء جيش ، وجهاز شرطة وطنيين، مع وضع إطار قانوني ومؤسسي لتنظيم سيطرة المؤسسات السياسية المدنية علي المؤسسات العسكرية، ومراجعة حجم الانفاق العسكري، وحجم الجيش ومستوي تسلحيه. واعادة صياغة العقيدة العسكرية. بالإضافة الى وضع برامج اقتصادية واجتماعية وتطبيقها لاحتواء ودمج عناصر وقيادات الحركات المسلحة والمليشيات داخل المجتمع، وليس داخل الجيش، اي بمعني حلها. وذلك تحقيقا لشعار ثورة ديسمبر المجيدة ( الجنجويد ينحل والعسكر للثكنات). الا انه من خلال ملامح التسوية القادمة للصراع الحالي ربما لا يتحقق هذا الشعار اذا نجحت تسوية الصراع . ويتم دمج قوات الدعم السريع في الجيش ، وذلك لان الدمج العسكري سمه من سمات مفاوضات السلام، وكل عمليات السلام التي تتعلق بالصراع الداخلي يتم فيها الدمج. ولكن من ناحية مفهوم قانوني فيما يتعلق بحل او دمج قوات الدعم السريع نجد ان النتيجة في النهاية واحدة وهي انتهاء الشخصية القانونية للدعم السريع.
4- البعد الاقتصادي والاجتماعي:
والذي يعني بناء اقتصاد سوق يلبي الاحتياجات الاساسية للمواطنين، وذلك عبر دمج واتباع كل المؤسسات الاقتصادية التي يمتلكها الجيش وتسيطر علي الاقتصاد ، الي السلطة والمؤسسات الاقتصادية للدولة مع وضع اطار قانوني يمنع الجيش من القيام باي عملية استثمارات خاصة .ووضع مشروع متكامل لا عادة الاعمار وتحقيق التنمية من خلال بناء المؤسسات الاقتصادية، وتوفير الاسس اللازمة لتحقيق الانطلاق والنمو الاقتصادي وتقليل مستوي الاعتماد علي المساعدات الاقتصادية الخارجية ، وعدم التعامل والاعتماد مع المؤسسات المالية الدولية . فضلا عن ذلك اصلاح التعليم والصحة وتحقيق العدالة الاجتماعية.
5- البعد الثقافي والقيمي:
ويقصد بها مجموعة القيم والمبادئ التي تحكم سياسات بناء الدولة، والتي يجب زرعها كقيم اساسية في الدستور، او كمبادئ عامه تحكم عمل المؤسسات الموجودة في الدولة، ويأتي في مقدمتها حماية حقوق الانسان، خاصة الحق في الحياة والحريات الاساسية، مثل حرية الانتقال، والتجمع والعقيدة وعدم التمييز، واعلا مبدا سيادة القانون، ونبذ العنف واساليب الاكراه، ولا يكفي تضمين هذه القيم والمبادئ في الدستور، بل يجب نشرها كقيم اخلاقية وثقافية في المجتمع، ولا ننسي ايضا في هذا الاطار العمل علي احياء هوية الدولة لتصبح هوية جامعة وخاضعة لجميع الهويات داخل المجتمع.
6- البعد القانوني:
(أ) محاكمة قادة اطراف الصراع دوليا: حيث انه في حالة التسوية لم يتم مناقشة المسؤولية عن الحرب والجرائم التي ارتكبت بشأنها، وذلك لان الوسيط في التفاوض سوف يتقيد بالمبادئ التوجيهية للأمين العام للأمم المتحدة الصادرة في العام 2004 وهي اخطاره للأطراف بان اسباب الحرب والجرائم التي ارتكبت من جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية وابادة جماعية لم تكن فيها اي تسويه ولا يحق للوسيط مناقشتها، ومع ظهور بعض البيانات من المجتمع الدولي والدول الغربية باتهام اطراف الصراع جرائم تدخل ضمن نطاق ميثاق روما. علية يتوجب التعاون مع لجان التحقيق الدولية وتسليم اطراف الصراع الى المحكمة الجنائية الدولية .
(ب) العدالة الانتقالية: لابد من اعداد قانون علي العدالة الانتقالية وذلك من اجل جبر الضرر.