عندما يُبعث عبد الرحيم أبوذكرى في “مسمار تشيخوف

عندما يُبعث عبد الرحيم أبوذكرى في “مسمار تشيخوف”
بقلم ?
لي سماءٌ غريبةٌ، أتأملها في الخفاءْ
وأهدهدها ساهماً في المساءْ
وأغني لها أجمل الأغنياتْ،
بصوتي الأجشْ الذي لا يجيدُ الغناءْ
من قصيدة “ليس عن الحب” لعبد الرحيم أبو ذكرى ( 1943- 1989)
الشخصيات العظيمة لا تموت. الموضوع لا يتعلق بجدل بيزنطي حول هوية الذات والأرواح والشهادة وفق المنطوق الأنطولوجي بمنظوره العقائدي. لكن يتعلق بالأفكار والتاريخ الذي يشكل شهادة ضد أي طيف سارق لمعنى العزلة الصادقة التي تتجسد في خلاصاتها عالما آخر خالدا، إنه الإنسان في ديمومته واستمراره، بقاؤه ككائن حر وأصيل، طالما كان شجاعا ليقرر متى يحيا ومتى يموت. وأكرر أن هذه المقدمة لتوضيح الفارق الذهني والممارسي بين الحرية بوصفها علامة عقدية بحتة وبوصفها تجليا لانطلاق الذات والانعتاق الكبير من كل الآلهة والتابوهات.
صاحب هذه “السماء الغريبة” التي تطل في قصيدته “ليس عن الحب” هو الشاعر السوداني عبد الرحيم أبو ذكرى الذي شكل علامة ارتجال وهو يغادر هذا العالم بشجاعة بعد أن قدم أشعارا ليس من المبالغة وصفها بالكنوز المتجلية التي لم تدرس بعد بالشكل الوافي. إنه الحلقة الثانية في مسار الشعر السوداني الحديث بعد التيجاني يوسف بشير في الكيمياء الساحرة والآخاذة. لكن الطريقة التي انتهت بها حياة الرجل وهو يلقي بنفسه من الطابق الثالث عشر، من شرفة غرفته، في أكاديمية العلوم السوفيتية، ربما كانت سببا في تأخر النظر لبعض ذلك السحر وتلك السماء الغرائيبية المندسة في شعره، والذي يكاد يندرج نصه المركزي في ديوانه “الرحيل في الليل” الذي عرفها البعض بواسطة الفنان الراحل مصطفى سيد أحمد وهو يغنيها.
هذا المقال ليس عن عبد الرحيم أبو ذكرى ولا سيرته. إنه وقفة لتأمل أن المعنى لا يموت. ففي رواية كتبها الشاعر والأديب التونسي يوسف رزوقة، صدرت مؤخرا في أبريل الماضي عن منشورات مومنت في لندن، بطبعتين ورقية وإلكترونية، في 110 صفحة. يعيدنا الأديب إلى قصة واحد من أصدقائه الذين تعرف عليهم في موسكو إنه عبد الرحيم الذي يسميه في الرواية “ذاكر” إشارة إلى “أبو ذكرى” اللقب الذي اقترحه عبد الرحيم لنفسه وأحباه.. وإن كان الراوي قد أورد اسم أبوذكرى كاملا في الرواية وذكر تاريخ مولده ووفاته انتحارا في 16 أكتوبر 1989 وفي العمل تفاصيل واقعية تماما، عن حياة أبو ذكرى وعن أطيافه وهواجسه في العالم، بل هناك نصوص من شعره، وما كتبه كمال الجزولي بعد وفاته تحت عنوان “نهاية العالم ليست خلف النافذة” وهي جملة قالها روسي عجوز لينهي بها مشادة حدثت لأبوذكرى. كذلك سنتعرف على “سين” التي كان أبو ذكرى على علاقة عشق معها، لكنها تصفه بالهيام الشرقي وكيف أن الرجل كان يغير عليها بطريقة الرجال الشرقيين برغم مفارقة ذهنه لهذه الصورة.
المؤلف يذكر في عتبة نصه الأولى أنه عاش في موسكو في الفترة من 1984 إلى 1987، ويشير إلى أن هذه الرواية “على إغراقها في نقل الواقع كوقائع عيشت بالكامل على أرض الواقع، لم تأخذ من السّيرة الذّاتيّة إلاّ ما يخدم أهدافها أو ما به تكون رواية. لا خيال فيها إلاّ ما ندر، لا اختلاق لأحداث وهميّة ولا خيانة في ترجمة مرحلة عاشها المؤلّف في موسكو.. ما بين 1984 و1987 ليكون لها توسّع وامتداد في الهُنا والآن”.
إذن سيرة أبوذكرى وسؤال الحياة والعدم والموت والانتحار الذي تطرحه الرواية ليس سليل عدمه بل هو من نصل تجربة واقعية وحقيقية عاشها السارد الذي يتداخل مع الراوي المسمى “(يو) اختصارا ليوسف. حتى أن عنوان الرواية وغلافها لا يتضمن اسم يوسف رزوقة وإنما (يو).. وفي هذا العمل بقدر ما تتداخل تجارب حياتية متكاثفة للسيد (يو) إلا أن أبوذكرى وعوالم سودانية تبرز في العمل ما يكشف عن احتفاء المؤلف وحبه للأدب السوداني، فهو يذكر كيف أنه قدم الطيب صالح في محاضرة بموسكو، ويتكلم عن شعراء وأدباء سودانيين منهم التيجاني يوسف بشير ومحمد الفيتوري ويوسف الحبوب.. وغيرها من الأمور التي تشعر بالفخر أن الثقافة السودانية لها أثرها وقوتها التي لا نحتفي بها نحن صناعها. ويقف أبو ذكرى بطلا في الرواية بقصاد همنغواي وفرجينيا وولف وخليل حاوي وآخرين تعرض لهم الرواية كان لهم أن يواجهوا الموت برفض الحياة، وربما مسائل أخرى معقدة تحاول السردية الإجابة عليها.
وإذا كان أبوذكرى قد فرغ من الدكتوراة بالروسية وكان موضوعها تشيخوف وأدبه وهي النقطة التي أشار لها الراوي قائلا: “ذاكر عاش تشيخوف طويلا وعاشره أياما وشهورا وسنين إلى أن نال درجة الدكتوراة في فقه اللغة”.. فقد أراد أن يمضي بعدها بأن يسقط من علٍ بعد أن دق ذلك المسمار.. مسمار تشيخوف. لا يمكن الجزم بأن العنوان مستل مباشرة من ذلك الشيء.. أو هذه الصورة. لكن ثمة علاقة لابد منها بين أبو ذكرى وتشيخوف.. فهما صديقان بلا شك. وثمة مقاربة أخرى بين المؤلف نفسه يوسف أو (يو) واتجاهه من الشعر إلى السرد، إلى تشيخوف.
لا أرغب في قتل متعة القراءة على وهج ذلك السرد الذي يراوح بين قوة البيان وشاعريته وتجربة الحياة المباشرة التي يمضي فيها المؤلف بشجاعة. إنها التفاتة عميقة تستحق منا رفع القبعة لهذا التونسي الذي أنجبته بلاد الشابي. وليكن هذا عنوانا لنا لنتعلم كيف نحتفي بالأدب الرفيع. بما عندنا من تراث وأدب وفن لا نعرف كيف نقدره حق قدره. ولنمضي في قراءة أبوذكرى ونطرب معه ونحلل ونستشرف هذا الإنسان الكامن في وعي متجدد وعبقرية نادرة، لم تلق نصيبها بعد.
ولنسمعه أخيرا يغني:
أيها الرَاِحُل في الليل وحيّداً
ضِاِئعاً مُنفرِداً
أمسُ زارتنِي بَواكّيُر الخريفْ
غَسَلتْنِي بالُثلوجْ
وبإشراق المروجْ
أيها الراحلُ في الليلِ وحيداً
انتظرني
فأنا أذهبُ في الليل وحيداً
كذا قوله:
وحين تصرصر الأبوابُ،
حين تضمني الحجرة
أفكرُ في الزمانِ المرّ والإنسان
وفي وطني الحزين الدامِعُ العينينِ
إلا من أزيزْ النارِ
[email][email protected][/email]
لغة رفيعة ومقال فى غاية البهاء والوسامة. نسأل الله ان يتقبل ابو ذكري فى جناته ويتجاوز عن سيئاته… لا يوجد سبب منطقى عن لم لا يعلم المواطن السودانى العادى او حتى من يحسب على النخبة الأدبية الكثير عن شاعر بقامة ذاكر الا قليلا بالطبع…
شكرا لهذا المزيج من تشيخوف ملك القصة القصيرة و (يو) الذى زامل شاعرنا بضع سنين فقط ولكاتب المقال على هذه الجرعة الثقافية المركّزة
يا بليك كيف أنت وأين حطت بك الزوامل . هل إرحلت عن الدوحة . لنا إشتياق للقاء . فى ماكتبت فقد أحسنت التعبير والإيجاز وفقط ابو ذكرى هو أحسنت مجيد للروسية و نال درجة الدكتوارة فيها و هو لمجلة الثقافة السودانية أثسسها وأقام عُمدها و. قابلت بموسكو و كان أول ما سأل عنه هذه المجلة التى أثعدمت بدم متخثر . أشكر لك إنتباهتك لإدبنا و ثقافتنا فهى تمضى كل يوم فى الإنتشار و تفرض نفسها رضى أعداء الحياة أم ابوا . لك التحية فماذال تلاقينا فى الدوحة حاضراً فى الذاكرة رغم أيامك القصار منعا فى محطة العمل .
العزيز الروائي الساحر عماد كم اشتاق اليك , والي ايام الشرق الجميلة حيث جئتنا مهندسا وتحولت الي صحافي كانت اولي تجاربه تغطية دخول طالبان الي كابول, تلك الأيام, قبل كل شيء اعزيك في فقدنا المشترك حمزة باديس ذلك الزوربا الجزائري الذي فوجئت برحيله العجلان في الأردن التي يعشقها له الرحمة والمغفرة ,
في خصوص مقالتك الرائعة عن ابو ذكري, فقد اعادت الي ذكريات مثل سارية سفينة تغرق في تخوم زرقة بحر هائج , في عام 72 اذا لم تخني الذاكرة قدمت انا اول دراسة نقدية مطولة لطائر الليل ضمن فعاليات ابا دماك تحدثت فيها مبكرا عن سوداوية بعض قصائد ابو ذكري ,وعندما سكنا سويا بالقرب من جامع شروني ,عبد الله جلاب, واحمدالطيب السني وعلي صديق , ومحمد دوعالي ,وعبد السلام عباس والطيب عبد القادر يرحمهما الله , كنت قريبا جدا من عبد الرحيم , كان عائدا لتوه من موسكو او بلغاريا قبل ان يعود مرة اخري لتحضير الدكتوراه, لحظت عليه انه كان شديد التوهان والسرحان يقضي معظم ساعات يومه في الغرفة لايبرحها وحين نصيح عليه لوجبة الغداء كان يأتينا بطيئا غير مقبل للطعام يكتفي بقليل منه ثم يعود مرة اخري لمحبسه, وفي المساء وفي بلكونة الشقة كنا نكرر الشيء نفسه نصيح مثني وثلاثا ورباعا ليشاركنا سمرنا الليلي فيستجيب ايضا بطيئا , جالسا مسافة منا مشاركا بكلمات شحيحية اذا دب أواحتدم النقاش, كنت احس ان ابو ذكري يعيش في عالم مثل عالم شعره كان خارجا دائما عن قشرة لحظاتنا يهّوم في داخله ممسكا بلحظاته هو, راحلا معها في الليل والنهار وهو مادعاه ان يختار الليل توقيتا لديوانه, رحم الله ابا ذكري رحمة واسعة ولتبقي ذكراه
عنوانا لنا يهدينا في مجرات شعره الي دروب الحياة التي اختار في لحظة غامضة مغادرتها بغير ارداته ,ولكن بأرداة عبد الرحيم الاخر غريمه الذي كان يطلب منه دائما الرحيل في الليل .