بَرلينيّ جَديرٌ بالاحترام: د. حامِد فَضلُ الله

أقرب إلى القلب:
(1)
سفراء المهاجر البعيدة .. هم رهطٌ من أبناء البلاد، دفعت بهم ظروف شتى للسّفر لأغراض الدراسة وطلب العلم، أو للالتحاق بمهنة تطلبت إقامة بعيدة عن البلاد، وفي كلا الحالتين أو حتى في سواهما، تجدهم يتأبطون أوراق اعتمادٍ صاغها وطن شمخ بإرثٍ غنيّ في التنوّع، وفي ثراء الثقافات. وما الهجرة إلا مغامرة لاكتساب الفوائد السبع التي في الأثر، ولكن أجلّها سفر لنيل العلم ورحيلٌ لاكتساب الخبرة وهجرةٌ لالتماس ما في الثقافات الأخرى من منافع وجوائز، لا تتوفّر في أمكنة الإقامة الأصلية، فيكون التفاعل دفعاً تجارياً واقتصادياً وثقافياً، جليل القيمة.
وما كلّ مَن ضربَ في أصقاع الأرض بقادرٍ على تحمّل تبعات رحلته تلك، بل وما كان من الميسور العبور إلى آفاق أبعد في جغرافيا المكان، وسبر بقاعه البعيدة، إلّا أنّ السّبل التي توفرتْ في العقود الأخيرة لحراك الناس بين بقعة وأخرى، على أكباد الحاملات المسافرة، تطوي الأرض أو البحر أو الفضاء، قد أفضتْ بالتجارب البشرية على اختلافاتها، إلى تقاربٍ مثمر، وتماسٍ إيجابي وتفاعلٍ خلاق. لنا في السودان أمثلة مشرقة منذ أزمان بعيدة، عن تجارب رجالٍ سافروا عن البلاد، وصنعوا لأسمائهم ذكراً، أضاف تعريفاً ببلادهم، وبشّروا بكسب من معارف كسبوها في أسفارهم، وأضافت لما بين أيديهم من علمٍ ومعرفة. وما غاليتُ إن ظننت أنهم كادوا أن يكونوا سفراء بأصدق من سفراءِ الخدمة الرسمية، التي تعدّهم وزارة الخارجية.

(2)
رجلٌ حمل اسم دارفور في اسمه وعلى وثائق هويته الرسمية، هو فيليكس دارفور( ـ 178 م ــ 1822م)، وحكى عنه الأديب الراحل عبد الهادي الصديق في كتابه “السودان والأفريقانية”، والذي صدرت ترجمته إلى اللغة الانجليزية في عام 2001، لا جدال حول أصوله السودانية. خرج من دارفور وتبناه رجل فرنسي، وتعلم في فرنسا وقد صارَ لاسمه اسما فرنسياً، ودرس الصحافة في باريس ثم انطلق في هجرته الثانية إلى “هاييتي”. في تلك البقعة النائية في الكاريبي، وقف نصيراً للسود هناك، وصار من رموز حركة “الزنوجة” الكبار. لعلّ حماسه الدافق لنصرة السود المظلومين هناك، أفضى بمسيرته إلى مصيرٍ مأساوي فقضى نحبه محكوماً عليه بالإعدام. يورد أديبنا الراحل عبدالهادي، نقلاً عن الأكاديمي الفرنسي “روبرت كارنيفان” أن فيليكس دارفور هو أول كاتبٍ من أصول أفريقية يكتب عملاً أدبياً باللغة الفرنسية، وبعده جاء كتاب فرانكوفونيون مثل “إيميه سيزار”، ثم “ليوبولد سيدار سنغور” و”البير كامي” بأصوله الجزائرية، وسواهم ممن رسخت مساهماتهم خلال وبعد سنوات القرن العشرين الميلادي.
(3)
ولنا أن ننظر في سيرة رجل سوداني آخر، هو محمد علي دوسة ( السوداني)، الذي عاش في بريطانيا في الرّبع الأول من القرن العشرين، وأصدر صحيفة “أفريكان تايمز” التي نادت إلى مناصرة عودة السّود إلى ثقافاتهم الأفريقية. هو- إن اعتمدنا اسمه – رجلٌ من أصول دارفورية ، مثل فيليكس دارفور. ثم إن نظرتَ في سيرة مهاجر سوداني قديم آخر أقام في الولايات المتحدة الأمريكية، هو الحاج حسون والذي يعد “مالكولم إكس” من تلاميذه، بل وحركة المسلمين السّود هناك، ستدرك كيفَ كان لهؤلاء السودانيين، أبلغ أثرٍ في المهجر الذي بلغوه وأقاموا فيه، فصاروا طرفاً قوياً من تاريخه، ولهم فيه أثرٌ وتأثير.
لا نزعم أنّ مهاجِرَ السودانيين وتجاربهم في الإقامة بعيداً عن وطنهم، لسبب أو لآخر، هيَ من التجارب البشرية الراسخة، أو هي من المبادرات الأولى. إن الشوّام، وخاصة أهل جبل لبنان، هم الأسبق في مثل هذه التجارب، والأرسخ طلباً للهجرة، والأقدم انطلاقاً لطرْقِ آفاقها، واكتساب أكثر مظاهرها نفعاً، ورفد ثقافاتها ولغاتها بما في ثقافاتهم العربية من ثراء في الإبداع، تشكيلاً أو سرداً أدبياً أو نظماً شعريّا. ما أجمل ما كتب شعراء وأدباء المهجر اللبنانيين، وهم في مهاجرهم الأمريكية، شمالها وجنوبها.
ما أكثر ما نعرف عن هؤلاء: جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ورشيد سليم الخوري وإيليا أبو ماضي والياس فرحات، وغيرهم، ربّما بما يفوق ما نعرف عن شعرائنا في السودان. بلغتْ آثار اللبنانيين المهجريين شأواً كبيراً حتى وصل منها إلينا ما تغنّى به مطربون، صنّفنا غنائهم في قولنا إنّهُ ضرب من “غناء الحقيبة”، مثل قصيد “عروس الروض”، وهي من شعر اللبناني إلياس فرحات من مقامه في أمريكا الجنوبية، وهي التي طربنا لها عند الحاج سرور، وأيضاً عند عبدالعزيز داؤود.
(4)
أما البرليني حامد فضل الله، فإنّ لنا معهُ شأناً وأيّ شأن..
هو طالب علم أوّل أمره، ومنذ خمسينات القرن الماضي، طوَتْ مراكبه التراب وسفائنه الفضاء والأمواه، فأقام عمراً في ألمانيا، وبعد بدايات الحرب الباردة التي اجتاحت العالم بعد أن وضعت الحرب الكونية الثانية أوزارها، وانشطرتْ ألمانيا بعدها إلى ألمانيتين وعاصمتها إلى برلينين. فلعلي إنْ وصفت الطبيب النطاسي والمثقف الشامل حامد فضل الله، بأنّهُ “برليني مخضرم”، ما جانبت الصواب، إذ هو من معاصري زمن المواجهات الباردة ، ثم صار شاهداً على زمان التوافق والتسامح والاتساق الحضاري، حينَ هدَم أوّل مِعوَلٍ منهُ، حجارة جدار الفصل الثقافي بين الألمانيتين. في لحظة الانهيار، وقف بناء التسامح شامخاً، وصار السوداني حامد فضل الله معه، شاهداً على الوقائع تجري أمام عينيه، وبرلينياً كامل البرلينية لا نصفها، كحالِهِ قبل أوان تسعينات القرن الماضي.
أقدّم لك عزيزي القاريء سفيراً شعبياً، كامل الاعتماد سفارة وعَلَماً ورسالة، مثلما أقدّمهُ لكَ نطاسياً بريعاً، وأديباً صادق العبارة بَهيّها، عميق الانتماء لوطنه غيورا.. ما قصدتُ أن أقدّم السِفر الكبير الذي أصدره قبل وقتٍ وجيزٍ، من مقامه في برلين: “أحاديث برلينية”: حول قضايا أوروبا والإسلام وفي الأدب والفكر(نوفمبر2013)، بل رميتُ أنْ ألفت النظرَ إلى ضَربٍ مِن السَّفارات ? غير السفارات الرسمية- قوامها نفرٌ مِن ابناءِ الوطن، يحملون رسالته في وجدانهم، ثقافة وقيّماً وتراثاً، فيصدر عنهم ما يزيد الوطن قيمة إضافية، في نظر الآخر الذي قد لا يعرف عنّا أكثر ممّا نعرف عنه. تلك في نظري هيَ السفارة الأجدى والأقوى أثراً وتأثيرا..
(5)
كنتُ قد كتبت منوّها قبل شهرين بسفيرٍ من طرازٍ جديد، هو صديقي المقيم في سيؤل عاصمة كوريا الأستاذ محمد آدم عثمان، وقد منحته الحكومة الكورية مواطنة فخرية كاملة، وليس إقامة دائمة فحسب. بعد خروجه إلى بريّة الصالح العام، إثر سياسة التمكين الظالمة في 1990، آوته كوريا لما يزيد عن العشرين عاما، مستشاراً في السفارة القطرية هناك، ومتعاوناً في أجهزة الإعلام الكورية في سيؤول، فرأته كوريا أحقّ بأن يكون مواطناً على أرضها، فأيّ فخرٍ لكوريا، وأيّ فخرٍ لنا بسفيرنا غير المعتمد محمد آدم عثمان، إلا بكبرياء إرثه الثقافي السوداني، يحدّث عنه هناك في سيؤول.
دكتور حامد فضل الله، هو سفيرٌ من هذا الطراز. سفيرٌ يحدّث برسالته وعن رسالته وبرسالته، فلا أملك إلا أن أناديه سفيراً للسودان في برلين، مفوّضاً وفوق العادة، بل وكامل الدسم، إن ارتضيتم. أما عن رسالته ، طبيعتها ومحتواها، فذلك ما سيكون موضوع مقالٍ قادم بإذن الله…
===
الخرطوم- 2 يناير 2014
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. الشكر لسعادة السفير جَمَال مُحمّد إبراهيْم على مثل هذه المقالات عن أناس يبعثون فينا الأمل في بلاد تموت في اليوم والليلة ألف ألف مرة … شكرا شكرا
    معلومة صغيرة، وردت في ثنايا المقال، ربما تحتاج لتحقيق أكثر .. فالشيخ أحمد حسون قد كان زعيما من زعماء أنصار السنة، وقد تم فصله من الجماعة، لأنه قام بتلاوة القرآن في قبة المهدي، حسبما تقول بعض المصادر … في المصادر التي تحت يدي، لم أجد تأثيرا مباشرا للشيخ أحمد حسون في مالكوم أكس ولكن لربما لطالب سوداني أسمه محمد عثمان، او اسما قريب من هذا، بعض التأثير وإن كان التأثير الأكبر على من سبقوا مالكوم أكس كان للداعية السوداني المعروف الشيخ ساتي … أعتقد أن بعض معلومات قد تفيد وردت في كتاب للباحثة رقية ابو شرف
    أكرر شكري على المقال والى الأمام

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..