الحَفِر وفنون البقاء

زمان مثل هذا

الحَفِر وفنون البقاء

الصادق الشريف

? الدكتور جيمس فريزر، المؤرخ والكاتب الأمريكي ذائع الصيت.. حاول أن يوثق لتاريخ وثقافة قبائل الهنود الحمر قبل أن يفنَوا من ظهر الأرض.. في كتابٍ أسماه (الغصن الذهبي.. الفلكلور والثورة) ولعله يقصد ثورة الهنود الحمر على الدخلاء الذين طردوا وأفنوا العنصر الهندي.. واحتفظوا ببعض قبائله في مسمياتهم العسكرية مثل طائرة (الأباتشي). ? تقول الأسطورة: (عجن الإله جسد الإنسان من الطين.. وصعد إلى السماء لكي يعود لـه بالرّوح لإحيائه، تاركاً خلفه الكلب لحراسة البدن.. وأثناء غيابه جاء إبليس ونفخ في الكلب ريحاً باردة فَخَدّرتهُ.. ودثره بغطاءٍ من فرو حتى يُضعف يقظته.. ثم بصق على بدن الإنسان وغمره بالقاذورات إلى حدّ جعل الإله يشعر باليأس لاستحالة تطهير الجسد من العفن الشيطاني. من هُنا قرر الإله أن يقلب الإنسان ويجعل ظاهره في باطنه.. وباطنه في ظاهره.. هذا هو سبب عفونة باطن الإنسان). ? بالطبع.. فالهنود الحُمر أصحاب ديانة أرضية.. يعتمدون على ساحر القبيلة في تلقي التعليمات المقدّسة.. والأسطورة هذه أحد منتجات سحرة القبيلة.. لكنّها كانت كافية لهم لتفسير السلوك (الغريب) على بداوتهم النقية التي لا تشوبها أمراض المجتمعات الحديثة. ? بالأمس قرأتُ مقالاً لأحد علماء (السلوك التنظيمي Organizational Behavior) وهو العلم الذي يبحث في سلوك الأفراد داخل المؤسسات.. وهم أفراد لا ينتمون في معظم المؤسسات إلى عرقية واحدة، لا إلى ديانة واحدة.. وفي أحيانٍ أخرى قد تجمع بينهم لغة واحدة وجنسية دولة واحدة.. ومع ذلك فإنّ سلوكهم لا يكاد يختلف كثيراً. ? السبب الرئيس في عدم الاختلاف هو أنّهم يتنافسون للحصول على الوضع الأفضل.. وفي معظم المؤسسات تكون فرص (الوضع الأفضل) ضيقة بحيث لا تسعهم جميعاً.. ومن هُنا يبدأ السلوك الفردي في تحصيل الأفضلية. ? ويختلف ذلك السلوك بحسب النظم الإدارية في المؤسسة.. وهذا أمر مهم لمعظم مؤسساتنا.. بل ولخدمتنا المدنية.. التي أعيانا دواؤها. ? المهم في ذلك السلوك أنّه يحمل نوعاً من الإبداع.. ليس كله إبداعاً خلاقاً.. فهنالك (إبداع عكسي).. يقوم به موظفون لتكسير (مقاديف) زملائهم في العمل.. بغرض تنحيتهم من المنافسة على الأفضلية. ? فيظهر النمامون.. وناقلو الكلام.. ومؤلفو السيناريوهات.. وصانعو الدرامات.. وهي ما تُختصر في مؤسساتنا وخدمتنا المدنية بـ(الحَفِر). ? كلّ تلك السلوكيات تصب لدى الإدارة العُليا.. لنيل رضاها.. وتحقيق سخطها على الآخرين.. و(الآخرون هم الجحيم). ? وليس مدهشاً أن كلّ هذا العمل يتمُّ سراً.. لأنّه سلوك لا يحتمل الجهر به.. وهو ما يُسمى لدى علماء الإدارة بـ(القنوات الخلفية) لانتقال المعلومات داخل المؤسسات. ? وعلاقة هذا الأمر بالأسطورة.. أنّه (بيان بالعمل) على عفونة باطن الإنسان.. تلك العفونة التي تسوِّغ له ? سراً – فعل ما يستحيي منه جهراً.. فالبعض يجيد فنّ البقاء في وظيفته وتطوير مخصصاته بقدر عفونة باطنه. ? وحينما ترخي الإدارة العُليا أذنيها لمثل هذا (الحَفِر).. وتقر مثل هذه السلوكيات.. فهي تقذف بأوّل لبنة في انهيار المؤسسة. ? ومساحة المقال هذه لا تكفي للاسترسال في مثل هذه القضية.. لكنّ الحل كما يراه د.إدوارد ليفي عالم السلوك التنظيمي هو أن تفتح المؤسسة قنوات الاتصال (القنوات الأمامية) بينها وموظفيها.. بدلاً عن اعتماد (القنوات الخلفية). ? ليتها تنفع.

التيار

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..