أنماط طرائق التفكير السوداني (٢٧)

✍ عوض الكريم فضل المولى وحسن عبد الرضي
حرب السودان … التفريق بين الأشخاص ونظام الحكم، بين الخراب والدماء والمسؤولية
تُعدّ حرب السودان (حرب الجنرالين) المستمرة منذ أبريل ٢٠٢٣م، واحدة من أكثر النزاعات دموية وتعقيدًا في إفريقيا الحديثة.
ولفهم أبعادها الحقيقية، من المهم التمييز الصارم بين الشعب السوداني كأفراد ومجتمعات، وبين نظام الحكم وصنّاع القرار من قيادات عسكرية وسياسية، بالإضافة إلى الفاعلين في منظمات المجتمع المدني، المهنية والطوعية، وكذلك التنظيمات القبلية والجهوية، من أطراف الحرب وشركائها.
يتحدث باسم الشعب السوداني كلُّ من يقوم بعملٍ لا تكون فيه للشعب مصلحة، بل يكون الشعب آخر من يعلم بذلك. فالذي يثير الحرب يدّعي أنه فعل ذلك من أجل الشعب السوداني، والذي يقوم بانقلاب يزعم أنه لصالح الشعب، ومن يقتل الشعب ينسب جريمته إلى الشعب ذاته!
فالشعب السوداني، المتنوع إثنيًا وثقافيًا، والمشهود له بالصبر والمقاومة، كان دومًا في مقدمة الصفوف حين تدعو الضرورة إلى التغيير السلمي ونبذ العنف، كما رأينا في انتفاضات ١٩٦٤م ، ١٩٨٥م ، و٢٠١٨م. هذه الانتفاضات السلمية واجهت القمع العنيف، والموت، والإعاقة، ولكنها ظلت متمسكة بالسلمية رغم المعاناة.
ومع ذلك، فإن الشعب السوداني كان، ولا يزال، المتضرر الأكبر من ويلات الحرب : بالنزوح، والجوع، وانعدام أبسط مقومات الحياة، والقتل العشوائي، دون أن يكون له قرار في الحرب أو السلام، فهو رهينة لصراعات النُّخَب التي لا تمثله في هذا الوضع الكارثي.
أما نظام الحكم وصنّاع القرار، فهم القيادة العسكرية ممثلة في الجيش بقيادة البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، وبعض المدنيين، والحركات المسلحة، والتنظيمات الإسلامية المتحالفة مع الطرفين.
هؤلاء هم من أشعلوا فتيل الحرب، وما زالوا يؤجّجون ضرامها، وكلما لاح أفقٌ للانفراج، أصرّوا على صبّ المزيد من الزيت على نارها، في صراعٍ على السلطة والثروة، لا على خلفية دينية أو شعبية، كما تزعم جماعات الإسلام السياسي وكتائبها، ولا هو صراع قبلي خالص كما يروّج بعض المتطرفين العنصريين.
هؤلاء لا يعبّرون عن إرادة الشعب ولا عن مصالحه، بل يسعون إلى الاحتفاظ بالنفوذ وتقاسم السلطة والثروة، ولو على أنقاض الوطن، وأشلاء أبنائه، ومستقبله.
وعليه، فإن اتهام السودانيين بالمسؤولية عن الحرب فيه ظلمٌ شديد للشعب السوداني، الذي لم يكن طرفًا في القرار، ولا مستفيدًا من نتائجه، بل كان المتضرر الأوحد.
من يحكمون اليوم لا يمثّلون السودان بكليّته، بل يمثّلون قوى معينة فُرضت بالسلاح، أو بالولاءات القبلية والجهوية، لا عبر صناديق الاقتراع.
ولذلك، فإن أي حل دائم وعادل يجب أن يكون شاملاً وتشاركيًا، يشمل قضايا الوطن في قوميته، والقوى المدنية الحقيقية، والمجتمعات المحلية، والنساء، والشباب، في عملية شفافة تقوم على التمثيل لا التمكين.
لا يمكن بناء سلامٍ راسخ إذا تم استبعاد المواطن العادي من العملية السياسية والمعرفية، بل لا بد أن يكون فاعلًا، لا ضحية، يُؤخذ رأيه ويُدرس موقفه، بدل أن يُترك يئنّ تحت وطأة اللجوء والنزوح والجوع والأوبئة، والخوف من مستقبل غامض.
أما الخطاب الإعلامي والسياسي، فمن الضروري أن يستخدم تعبيرات دقيقة مثل : “النظام”، “القيادة العسكرية”، “صنّاع القرار”، “أطراف النزاع”، بدلًا من “السودانيين” أو “السودان” عند الحديث عن الحرب. فمثل هذه الدقة تحقّق عدالة لغوية ومعنوية، تمنع شيطنة شعبٍ بأكمله، وتُحصر المسؤولية في من يستحقونها.
فعلى سبيل المثال، من الخطأ أن نقول:
“السودانيون يدمرون بلدهم”،
والصحيح أن نقول :
“الصراع بين الجيش والدعم السريع دمّر البلاد وشرّد الملايين من المدنيين السودانيين”.
فالسودان ليس البرهان ولا حميدتي.
السودان ليس ساحة معركة، بل وطن عريق ضارب في جذور الحضارة، يضم شعبًا محبًا للسلام، مستحقًا لحياة كريمة وآمنة.
وعلى الإعلام والمجتمع الدولي أن يميّزا بين من يقودون الخراب، ومن يُساقون إليه قسرًا.
كذلك، فإن عدم استخدام القبلية والجهوية، وأجساد النساء، والعاطفة الدينية كأدوات تعبئة أو ساحات حرب، هو أمر جوهري إنساني وأخلاقي، بل هو شرط ضروري لبناء خطاب وطني يحترم عقول السودانيين، ويُقدّر معاناة الضحايا، ويكشف المسؤول الحقيقي عن الخراب والدماء، عن النزوح والجوع، عن الأمراض ومستقبل الأجيال.