المعارضة و الشعارات الفضفاضة

تستفذني كثيرا بعض الشعارات البالية و العبارات الخاوية و الجمل المبهمة التي تتشدق بها النخب السياسية المعارضة و المثقفة و الثورية في بلادنا و التي ظل الكثيرون يتعامل معها كمسلمات غير قابلة للنقاش و التأمل و التفكيك و التصويب و ظلت هذه المفردات بعيدة عن هموم المواطنين و احتياجاتهم و بعيدة عن دائرة اهتمامهم المباشر و منفصمة عن التحديات الاجتماعية و القومية التي تحيط بالبلاد و لا تعبر الا عن فئة محدودة من الشعب لا تتجاوز العشرة في المئة و التي ليس لديها خبرات عملية حقيقية تؤهلها للحديث عن الدولة و ادارة الدولة و ماهية الدولة و طريق الوصول الي الدولة و تأسيسها أو اصلاحها أو تفكيكها رغما عن تذودها بالثقافة و العلم النظريين و افتقارها للدراية التجريبية.
كما أصبحت هذه الشعارات و المفردات مطية للبعض من المذايدين و الببغوات و المتسلقين الانتهازيين و المحترفين السياسيين في صراعهم الاجتماعي من أجل الوصول الي الثروة و السلطة و هذا لا يشمل الأسرتين الطائفيتين فقط و انما يشملنا جميعا و كل من تصدي من تلقاء نفسه للعمل العام.
من تلك العبارات المبهمة و الارتباطات الغريبة في العقل الجمعي السياسي السوداني الحديث عن الثورة من أجل الوصول الي الديمقراطية متناسين جميعا حقيقة أن الثورة و احتشاد المواطنين خلفها و ايمانهم بها و من ثم انجازها دائما ما تأتي خلف شعارات كبيرة كالحرية و التحرر و العدالة الاجتماعية كقيم سامية أو تأتي من مطالب اقتصادية اجتماعية و التي تعرف أحيانا بثورة الجياع و لا تأتي الثورة من أجل الديمقراطية النخبوية.
و لا يمكننا أن نعتبر انجاز الديمقراطية من المطالب الثورية و التي لا تعني المواطن البسيط في شئ و لا يؤمن بها و لا يفهمها و لا يعرف كيفية ممارستها و غير مستعد للتضحية من أجلها أو دفع فاتورتها الثقافية و لا تعبر عن منظومته الاجتماعية.
بالرجوع الي تاريخ الثورات العالمية نلاحظ أن الديموقراطية دائما ما تاتي لاحقا بعد انجاز الثورة كتطور طبيعي و ثمرة للحرية كما في الحالتين الأمريكية و الفرنسية و قد يسبق هذا التطور الديمقراطي فترة من العدالة الانتقالية الاستبدادية و الوصاية النخبوية المتجردة من المطامع الشخصية بغرض تحقيق اهداف الثورة و الحفاظ عليها من الضياع و السرقة و الانحراف و الارتداد و الاجهاض.
و هذه العدالة الانتقالية الناجزة يقوم عليها بالضرورة أشخاص عسكريين أو قوي ثورية مدنية مؤتمنة و ليس الأحزاب السياسية المعارضة المدجنة و التي ليس لديها التأهيل الكافي و لا الاستعداد للحفاظ علي أي ثورة شعبية قد تتعارض مع مصالحها و مكتسباتها الموروثة و التي هي ايضا تعتبر جزأ من النظام السياسي و الاجتماعي للبلاد و يجب أن تكون من احد أهداف الثورة.
يتضح لنا من ما سبق و يلي ان الأحزاب السياسية السودانية المعارضة أصبحت مفرغة تماما من الكفاءات و الخبراء و تفتقر الي البرامج العملية العلمية و أضحت محاطة بمكاتب للسكرتارية أو العلاقات العامة و وجدت الكفاءات السودانية نفسها أمام خيارين أحلاهما مر و هما اما الجلوس علي كنبة الاحتياط داخل و خارج البلاد بعيدة عن دواليب العمل الوطنية و اما الالتحاق بالمؤتمر الوطني للمشاركة في الحياة العامة بالبلاد.
نتيجة لكل ذلك وجدت القوي الوطنية الفاعلة و الحية نفسها مقسمة الي ثلاثة معسكرات متماثلة منعدمة الثقة فيما بينها تتناثر ما بين الحكومة و المعارضة و المجتمع المدني و كل معسكر يضم المخلصين و الانتهازيين معا في قارب واحد مهما اختلفت النسب و الأوزان و الأحجام و درجة النزاهة.
و لكي تنهض البلاد من كبوتها و نحافظ علي ما تبقي منها شعبا و أرضا و كرامة يجب علينا البحث عن معادلة سحرية تضع جميع المخلصين من الحكومة و المعارضة و المجتمع المدني في قارب واحد لقيادة البلاد و المرحلة القادمة في مواجهة الانتهازيين من الحكومة و المعارضة و المجتمع المدني تحت قيادة حكيمة قوية.
قد تحدث تصدعات في جسد المجموعة الانتهازية الحاكمة نتيجة للتحديات المختلفة تؤدي في نهاية المطاف الي تغيير سياسي يشمل رأس النظام تعقبها مرحلة سيولة سياسية تصعد علي اثرها الأحزاب الانتهازية الي السطح و لكن هذه المرحلة سرعان ما ستنتهي باعادة النظام الطفيلي لانتاج نفسه تحت شعارات جديدة و لن يكتمل حينها التغيير.
لذلك علي النخب الثورية (و لا أقول الديمقراطية لأن الديمقراطية ليست مطلب ثوري) التحرر من مواعينها الحزبية الضيقة و الثورة عليها و نقد الزات و التوجه نحو المجتمع و ملامسة همومه و احتياجاته و قضاياه الجوهرية و ترجمتها الي شعارات ثورية حقيقية جامعة في شكل فن و أدب و منتوج فكري جديد يتواثق عليه شعبيا و من ثم انجاز الثورة لان اي ثورة لا يسبقها و يصطحبها مفكرين و مبدعين لا تقود الي شئ و ستكون وليدة الاحباط كثورات الربيع العربي.
أما اذا تركت العناصر الانتهازية في الحكومة و قيادة المعارضة و المجتمع المدني في الساحة السياسية وحيدة تسرح و تمرح و تتحاور عبثيا فيها كيفما تشاء فان النتائج حتما ستكون كارثية علينا جميعا و لن تنتج في النهاية الا نظاما انتهازيا جديدا يعبر عن نفس المصالح الطفيلية القديمة بثوب أجمل.
في هذه المرحلة التاريخية الخطيرة من عمر البلاد هنالك ملفات وطنية حساسة تتعلق بالامن القومي يجب علينا الاضطلاع عليها و معرفة ابعادها المختلفة تجنبا لحدوث أي فراغ سياسي في حالة انهيار النظام من تلقاء نفسه جراء التصدعات و لكن المشكلة الأخري أن مثل تلك الملفات لا يمكن مناقشتها في العلن أمام اجهزة الاعلام و أخشي ما أخشاه أن ينهار كل النظام قبل تسليم من يلزم تلك المعلومات و تصبح البلاد عرضة أكثر للاختراق الخارجي و التصدع الداخلي و يستحيل حينها لقوي المعارضة أو المجتمع المدني انتاج رجال دولة في ليلة و ضحاها و لن يستطيع أحد أيضا التمييذ بين متي تبدا الامور و متي تنتهي و متي تضيع.
لذلك علي كل النخب المثقفة و الثورية المتجردة الان و قبل الغد عزل كل الأحزاب السياسية المعارضة التي شاخت يسارا و يمينا و وسطا و التوجه نحو الحركات الشبابية الناشئة المختلفة من اجل تنظيمها و تطويرها و تأهيلها و بلورة قضاياها الاجتماعية و تأطيرها فكريا حتي تصبح البديل الجاهز في حالة حدوث أي فراغ سياسي بالبلاد و أيضا لمنعها من حدوث الانفلاتات و التهور و الاستغلال من الاخرين و نزع فتيل خطاب العنف و الكراهية و الاحباط عنها.
هناك فريق اخر عجيب من النخب المثقفة يتكلم عن ضرورة وحدة أحزاب المعارضة من أجل انجاز الثورة كما يعتقد من أجل تحقيق الديمقراطية كما يعتقد أيضا بين ليلة و ضحاها و هو بذلك يحلم ثلاثة أحلام يقظة غير مشروعة في وقت واحد و هي وحدة هذه الأحزاب و قدرتها علي الفعل و الديمقراطية المرجوة منها و هي كلها من المستحيلات.

بالعامية السودانية:

الاتحادي مشارك عديل و الأمة و الشعبي بحاورو بي الباب و الشيوعي بحاور بي الحيطة و البباري جداد الوطني و الشعبي بودوهو الكوشة…
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. طيب ما تحل القصة دي وتريحنا. منهم وانت عارف احسن منهم وعندك الخبرة العملية. يعني ما منظراتي زي ما بتنظر هسم.

  2. الكفاءات السودانية نفسها أمام خيارين أحلاهما مر و هما اما الجلوس علي كنبة الاحتياط داخل و خارج البلاد بعيدة عن دواليب العمل الوطنية و اما الالتحاق بالمؤتمر الوطني للمشاركة في الحياة العامة بالبلاد.

    هناك خيار ثالث وهو تنظيم انفسكم والعمل على خاق حزب جديد لكن الكسل والاتكالية وتعليق المشاكل في الاحزاب التقليدية والطائفية ما تارك ليكم زمن لمثل هذا التفكير

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..