حقيقة الكارثة الامنية

قبل اسبوعين دشن الرئيس سلفاكير مشروعا امنيا يقضي بنشر طائرات بدون طيار في سماء جوبا وكاميرات مراقبة في الطرقات وهو مشروع يعتبر ذات تكلفة مادية باهظة كما انه تقنية اسرائيلية بامتياز من اجل مكافحة الجريمة وتعقب المجرمين وكل ذلك ياتي في ظل انحطاط امني رهيب في البلاد ليس في مدينة جوبا فقط وانما كل انحاء الدولة تقريبا.

السؤال هنا لماذا التركيز علي جوبا بمعزل عن بقية المناطق التي تعكس صورة باهتة عن جنوب السودان والانفلات الامني الذي يحدث فيها رغم وجود قوات الامن؟

اعتقد ان الفشل يبدأ من هنا، فمدينة جوبا لا تقل شانها من شان الولايات الاخري التي تشهد اضطرابات امنية اسواء بكثير من المطاردات والاشتباكات المسلحة في شوارع جوبا ومنازلها حيث معقل قيادة الامن والجيش والشرطة بكافة اداراتها مثل قسم التحقيقات الجنائية (المباحث) وادارتي العمليات في الشرطة والامن القومي بالاضافة الي ادارة العمليات المشتركة التي تضم الاستخبارات والامن والشرطة ولم تنعم مدينة جوبا بالامن والاستقرار، بل تحولت الي مدينة اشباح في اعين قوات الشرطة والجيش والامن.

قضية امن الطائرات والكاميرات هذه تدعونا ان نعيد السؤال القديم المتجدد، وهو اين ذهبت كل ادارات الامن التي خصصت لتامين مدينة جوبا طوال الفترات السابقة. او اين هي شرطة مكافحة الشغب، واين هي شرطة الطوارئ التي اختفت سياراتها ومعداتها تماما في شوارع جوبا حتي تلك السيارات الصغيرة التي تتسلق المرتفعات وتسير في الشوارع الوعرة والمنحدرات ومزودة بالمدفع، اين هي قوة الاحتياط وامن المعابر.

هكذا ذهبت مجهودات الامن ومكافحة الجريمة هدرا في ظروف غامضة وظلت مدينة جوبا في تلك الاثناء مدينة تسيطر عليها المجرمون وكأنهم يتفوقون علي اجهزة الامن في الكفاءة والمعدات علي رغم ان العكس هو الصحيح حيث ان الجيش والامن والشرطة هم ادوات ردع المجرمين في كل انحاء العالم فليس هناك مجرم هارب والا تم القبض عليه، وليس هناك قاتل والا تم محاكمته، ولا نهابين والا تم مطاردتهم، ولا مسلحين والا تم نزع اسلحتهم، ولا ارهابيين والا تم تفكيك شبكاتهم وكل ذلك لا يتم الا من خلال وجود تلك الاجهزة الامنية لان ذلك يندرج في صميم مهامها الامنية كمان ان انتشار ووجود المجرمين هو سبب كافي ايضا لوجود شرطيين وامنيين لملاحقتهم حيث يمثل المجرمين قطب الفوضى، بينما يمثل رجال الامن قطب النظام.

الصحيح هو ان مشكلة الامن في البلاد اكبر من اطلاق طائرة مراقبة صغيرة في الهواء الطلق، او زرع عدسة مراقبة او اجهزة التصنت. المشكلة اكبر مما نتخيل والحل بسيط جدا ولا يمثل مواكبة التطور سوى ملحق من ملاحق مكافحة الجريمة. فما هو الامن وكيف يتم فرضه واين جنوب السودان من ذلك؟.

نحن لسنا بصدد تعريف الامن من جانبه الكبير الذي يتصل بالامن القومي حيث يتخطي الحدود الجغرافية للدولة مثل ما هو مفهوم الامن القومي الامريكي الذي يتناغم في بعص الاحيان مع الامن الدولي والعالم باسره، فالامريكيون في احيانا كثيرة هدموا دولا وامم من اجل مزاعم الامن القومي الامريكي لكن هذا الطريق بعيد كل البعد عما نود ان نسرده عن الامن في جنوب السودان وهو امن بكل تأكيد لا يتعد حدود الامن الشخصي وحماية المواطنين وممتلكاتهم من المجرمين والشبكات الاجرامية.

يعرف الامن علي انه توفير الراحة النفسية للمجتمع، وباختصار شديد لا يمكننا ان نتخيل انفسنا ونحن نعيش في حالة الطمانينة دون ان تسبق ذلك حزمة من الاجراءات الامنية التي تقضي علي المخاوف والمهددات الامنية التي تحيط بنا.

عندما تم الاعلان عن مشروع الطائرات والكاميرات الذكية لتامين ومراقبة مدينة جوبا، تبادر الي ذهني السؤال التالي: هل صحيح ان هذه الطائرات والكاميرات ستنهي جرائم النهب والقتل والاغتصاب والتحرش وغسيل الاموال والجرائم الموجهة ضد الدولة؟

الاجابة واضحة طبعا ولم نتعمق في هذا الاتجاه كثيرا، فالمعلوم ان توفير الامن في مدينة جوبا لا يحتاج الي كاميرات المراقبة اكثر من التدريب وتأهيل قوات الشرطة لتادية هذه المهمة جنبا الي جنب مع قوات الجيش والامن وبحسب علمي البسيط فان الجريمة لا تبدأ بالفعل او النتيجة انما بالفكرة والتخطيط والتنظيم ومكافحتها لا يتوقف عند تعقب المجرمين ومطاردتهم بعد التنفيذ، بل يتطلب تعقبهم في اماكن تواجدهم وتفكيك شبكاتهم والتخطيط الي الايقاع بهم وتشتيت افكارهم والاهم من ذلك معالجة الاسباب التي تشجع علي الاجرام.

لا ادري من اين استوحت قادة الشرطة هذه الفكرة وفي هذا التوقيت بالذات حيث صارت شوارع جوبا مظلمة تماما وخالية من الإنارة، فقد تم سرقة كل معدات الطاقة الشمسية من علي الطرق، لاحظوا (كل لوحات الطاقة الشمسية)، بربكم في اي مدينة تحدث مثل هكذا السرقات بوجود الشرطة والامن والجيش، اليست هذه فضيحة؟ ان سرقة هذه المعدات يوضح واحد فقط بين امرين: اما ان العملية تتم في غياب دوريات الامن او بوجودهم وهم نيام وفي كل الحالتين هنالك مصيبة تتوسطهما.

اذا كانت الفكرة من تلك الكاميرات والطائرات هي مكافحة الجريمة وتعقب المجرمين بالفعل، فلماذا مدينة جوبا تحديدا علي الرغم من ان مدينة رومبيك تشهد احداث قتل مروعة بين العشائر هناك لمدة من الزمن ولم تتمكن قوات الامن بكافة انواعها من مكافحة هذه الجرائم البشعة، بالاضافة الي ذلك ما تزال عمليات اجرامية دموية تجري في اقليم جونقلي بين الدينكا والمورلي حصدت وتحصد ارواح برئة وادت الي نزوح وتهجير وتشريد أسر باكملها دون ان تتخذ السلطات الامنية اي إجراءات.

نقول ان فرض الامن لم ولن ياتي من خلال اجهزة اللاكترونية انما بواسطة كوادر أمنية مجهزة ومدربة في مكافحة الجريمة، فالشرطة علي سبيل المثال لديها قوات كافية لحسم اي تفلتات امنية لكنها تحتاج ان توفر لها الحكومة كل الامكانات إبتدا بالاجور الشهرية إنتهاء ببيئة العمل ، وكذا الحال مع بقية القوات النظامية وبدون ذلك لا يمكن ان تتم مكافحة الجريمة في جوبا او جنوب السودان لطالما ان اسباب الجريمة لا تحصى.

فما هي اسباب الاجرام وكيف توغل المجرمون في اوساط المجتمع وما المطلوب من الحكومة علي وجه التحديد لانهاء هذه المسألة. او علي الاقل الحد منها؟

اتذكر عام 2015م قامت بلدية جوبا بشق الطرق في معظم احياء المدينة شملت (كتور – نياكورن – مونوكي – روك سيتي – قوديلي) في اعقاب تزايد عمليات الاجرام وارتفاع المطالب الاهلية بضرورة شق الطرق لفرض الامن وقد نجحت البلدية الي حد كبير في ازالة معضلة الطرق الوعرة التي كانت تشكل عائقا امام القوات النظامية لمطاردة المجرمين، فما الذي حصل بعد ذلك؟

لقد ظل معدل الاجرام في ارتفاع متزايد خاصة في قوديلي ونياكورن والجبل وقومبا ومونوكي حتي في قلب العاصمة وهذه الجرائم اكدت بدون شك ان المشكلة لم تكن ازمة ممرات انما عدم وجود السيارات ودوريات الشرطة هذا باستثناء نقاط الارتكاز الرئيسية ولا تفي الغرض.

في الحقيقة مشكلاتنا الامنية كثيرة ولا يمكن ان نتوقف عندها مجتمعة الا انه هنالك ضرورة لذكر الاسباب التي ادت الي ارتفاع معدل الاجرام في جوبا وبقاع اخري حول البلاد مع استثناء عامل واحد وهو عامل الحرب لان الاخيرة دوافعها سياسية بحتة من اجل السلطة ولكن بالعودة الي مدينة جوبا ومدن اخري فان تأخر الاجور الشهرية في كل القطاعات المدنية والعسكرية كفيل ان يجعل مدينة جوبا معقلا للمجرمين وحاضنة للشبكات الاجرامية .

علينا ان نتخيل شكل حياة الجندي او الموظف وهو ينتظر راتبه الشهري الذي لا يساوي عشرة ارطال سكر لمدة اربعة اشهر علي التوالي،فماذا نتوقع ان يحدث في تلك الحالة، بالتأكيد الكل اقرب الي ان يكون مجرما في هذه الحالة بدل ان يكون مواطنا صالحا. وهذا ما يحدث حاليا ومن ينكر ذلك فهو مكابر متكبر يبغض الحقيقة، فحتي الحكومة نفسها تدرك ان اوجه القصور يبدأ من هنا في هذه النقطة بلا منازع.

الضائقة المعيشية في حد ذاتها اضافت ثقل آخر علي كاهل المواطن الذي تكالبت عليه الظروف في كل الاصعدة، وحدث ان حاول اعداد من المواطنين الانتحار في مدينة جوبا لدواعي الفقر والمجاعة وهاجر البعض الي دول الجوار طلبا للحياة الكريمة وعاد اخرون الي دولة السودان منكسرين ومنحنيئو الرؤوس بعد ان تقطعت بهم السبل في بلادهم وتبددت احلامهم الوردية اما الباقون فهم الذين يواجهون مصيرهم الان بطرق مختلفة، فكيف لا تقوى شوكة الاجرام والمجرمين او ما الذي يمنع من تنامي الانشطة الاجرامية في جوبا والمدن الاخري.

هذه هى الحقائق المؤلمة، فالذين يخدمون في الخدمة المدنية والعسكرية لا يتقاضون اجورهم في الوقت المناسب مع تدهور حجم الخدمات وغلاء المعيشة وانحصار فرص العمل او انعدامها مع ارتفاع نسبة البطالة خاصة وسط الشباب وسط إستمرار نهب موارد الدولة وإذكاء سياسة الفساد مع قصور امني واضح، كل تلك الظواهر شجعت الي حد بعيد ضعف كيان الدولة والحكومة وافرزت حالة ليست اقل بان توصف بالفوضى.

عوضا عن ذلك، هنالك مشكلات امنية اخرى صنيعة السياسة والتنافس العشائري وتقف ورائها ايادي غير خفية تستخدم المواطن كدرع لتحقيق مأرب سياسية ليست لها وجود في قائمة المطالب السياسية ومنافية تماما لابجديات العمل السياسي. فما الحل؟

هل تتذكرون ما حدث في ولاية جونقلي الشهر الماضي. بلا شك انتم تتذكرون فالاحداث الفاجعة عسيرة النسيان، وللاهمية دعوني اعيد لكم القصة، فقد اغارت مجموعة من اثنية تابعة لولاية بوما في 23 نوفمبر من العام المنصرم، علي إثنية اخري بولاية جونقلي ادت الي مقتل ما لا يقل عن 42 شخصا بينهم اطفال ونساء وشيوخ وفرار اكثر من (1000) مواطن من مناطقها.

وفي ولاية البحيرات الغربية وحدها، قتل ما يعادل (115) شخصا بين عشيرتي روب وفكام أثنا مواجهات مسلحة بتاريخ 8 ديسمبر 2017، وفي يومين علي التوالي “الخميس والجمعة” وجرح اعداد ونزوح المئات، كما تجددت الاشتباكات مرة اخرى بين نفس العشيرتين بتاريخ 12 ديسمبر الذي ودعناه في امس القريب، اودت بحياة 173 شخصا وجرح 213 اخرين وتدمير 342 منزلا ونزوح اكثر من 2000 شخص وعشرات من المفقودين.، وفي يوم 17 من ذات الشهر، قتل ما لا يقل عن 40 شخصا في اشتباكات مسلحة بين عشيرتي (ابريو – فقوار) بولاية قوك وجرح العشرات ونزوح المئات وقد استمرت الاشتباكات لمدة يومين متتالية لاسباب غير معلومة حتي الان، غير ان بعض المعلومات التي بحوزتي تشير الي ان سبب المواجهات جاءت بعد ان اشتبك شابين في السوق بمقاطعة شويبيت لتتسع الدائرة عقب ذلك وتتحول الي حرب عشائري.

هذه هي الصورة بالكامل، ففي ولاية البحيرات الغربية وحدها بلغت عدد القتلي في اقل من اسبوعين (288) قتيلا مرشح للتزايد مع وجود حالات اصابة خطيرة جدا بمستشفى رومبيك بالاضافة الي استمرار حالة الاستنفار والاستنفار المضاد بين نفس العشيرتين مع استقطاب السلاح والذخيرة.

واذا اضفنا عدد القتلى الذين لقوا مصرعهم في جونقلي وقوك الي تلك الارقام الفلكية بولاية البخيرات الغربية. فان اجمالي المواطنين السودانيين الجنوبيين الذين ماتوا في اقل من شهر قد ناهز (370) شخصا وحتي لحظة كتابة هذا المقال، هنالك عشرات يموتون الان في البحيرات ومناطق اخرى دون منقذ ولا بواكي عليهم.

صورة جنوب السودان بالنسبة لي اصبحت مشوهة تماما خاصة في الجانب المرتبط بفرض الامن، وكلما ارتفعت نسبة انحطاط الامن، تراجعت معها هيبة الدولة واختفت السيادة المزعومة وتدهورت سمعة الوحدات الامنية مع عرقلة كبيرة وخطيرة في نفس الوقت للخدمات. فعلى سبيل المثال لا الحصر قد جمدت جمهورية الصين الشعبية مشروع مياه المدن في جوبا العاصمة بسبب انعدام الامن، وإتخذت اليابان نفس الخطوة حيث جمدت مشروع تشييد جسر جوبا ومياه المدينة وسحبت كل القوى العاملة وربطت إستئناف تلك المشاريع بتحقيق الامن الذي لا يتحقق.

اما بالنسبة للولايات، فان الامن هو مجرد حلم من الاحلام المؤجلة ليس له مكان لدي السكان هناك، ولهذا السبب نقترح علي الرئيس سلفاكير اعلان حالة الطوارئ في كافة أرجاء البلاد بما في ذلك العاصمة جوبا مع اطلاق حملة واسعة النطاق لجمع السلاح واجراء تحقيق دقيق وشامل عن الذين يقفون وراء عملية تسليح المواطنين في القوات النظامية والبرلمان ومجلس الوزراء والتحقق من مصادر التمويل الداخلية والخارجية وبدون ذلك لن ننعم بالامن حتي لو استوردنا كل اجهزة المراقبة الدولية او حتي لو إستأجرنا الاقمار الصناعية.

تعليق واحد

  1. الابن اجو لك التحية . رمبيك الجميلة هي البلد الذي وعيت فيه بالدنيا في الاربعينات وعشت في الجنون الى ان التحقت بالممدرسة الثانوية . وعدت اليه فيما بعد . الفقرة الاخيرة من كلامك تعنبر بلسما وعلاجا للجريمة التي صارت من الظواهر العادية في الجنوب . المشكلة هي القبلية ولقد تطرقت لها كثيرا وحذرت منها قبل الانفصال . نحن شعوب منكودة . موت الشهيد قرنق اضر بالشمال والجنوب . القادة اليوم يفكرون في مصالحهم الشخصية والقبلية الضيقة . الخلاص هو التخلص من سلفا ومشار ، واعطاء فرصة للشباب في الشمال والجنوب . فساد الجنوب امتداد لفساد الشمال . وفساد الشمال امتداد لفساد الجنوب .

  2. الابن اجو لك التحية . رمبيك الجميلة هي البلد الذي وعيت فيه بالدنيا في الاربعينات وعشت في الجنون الى ان التحقت بالممدرسة الثانوية . وعدت اليه فيما بعد . الفقرة الاخيرة من كلامك تعنبر بلسما وعلاجا للجريمة التي صارت من الظواهر العادية في الجنوب . المشكلة هي القبلية ولقد تطرقت لها كثيرا وحذرت منها قبل الانفصال . نحن شعوب منكودة . موت الشهيد قرنق اضر بالشمال والجنوب . القادة اليوم يفكرون في مصالحهم الشخصية والقبلية الضيقة . الخلاص هو التخلص من سلفا ومشار ، واعطاء فرصة للشباب في الشمال والجنوب . فساد الجنوب امتداد لفساد الشمال . وفساد الشمال امتداد لفساد الجنوب .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..