ضرورة التصدي للحرب النفسية على السودانيين ومحاولات الحط من قيمهم

الريح عبد القادر
ندرك تماماً ما أصاب منظومة قيمنا في العهود الأخيرة ، لكننا لا نصدق أبداً السردية المرافقة للحرب التي تريد أن تجعلنا عراةً حفاةً من الأخلاق ! .
عشرات البوستات والتسجيلات الصوتية تترى يومياً لتنزع عنا الأمانة والكرم والنزاهة. وكل ذلك هراء وعبث ، ويشكل جزءاً من هذه الحرب العبثية الدائرة. جزء كبير من أهداف هذه الحرب يستقصد القيم ، وإلحاق الهزيمة النفسية بنا ، ودفعنا إلى الإحباط والتخلي عن بلدنا . إنها حرب على القيم في المقام الأول .
نعم ، لدينا جنجويد بالآلاف ، ومليشيات وحركات مسلحة ، وطغمة عسكرية فاسدة تستأثر بنحو ٨٢ في المائة من موارد الدولة، ولدينا كيزان وأشباه كيزان نحو نصف المليون ، وآلاف من “النهّابة والنهّابات” الذين اعتدوا على البيوت بعد أن نزح عنها أهلها ، ولدينا فوق ذلك حرامية وسماسرة واستغلاليون وكذابون كذا مليون . لكن كل هؤلاء ليسوا أنت ، وليسوا أنا.
احفظوا ذلك : هؤلاء ليسوا أنت ، وليسوا أنا.
والأسواق ليست كلها أسواق “دقلو”.
قالوا لنا : في مدينة كذا بلغ الجشع والاستغلال بالناس درجة أنّ إيجار الشقة وصل إلى مليار جنيه . وترى الكل يجلد نفسه والكل يبكي! .
ولم يسأل أحد عن عدد الشقق وعدد البيوت التي استئجِرت بهذه المبالغ ! .
نصدق هذا الهراء وكأن مدن شندي وكوستي ومدني ومروي والفاشر والضعين بها مئات الأبراج السكنية وفي كل برج مئات الشقق المعروضة للإيجار ! .
كل هذه الهيلمانة لا تتعدى عشرات الشقق ومئات البيوت ! .
وإذا أحصينا نسبة الذين استأجروا شققاً وبيوتا من النازحين إلى الأقاليم ، نجد أنها لا تتعدى الواحد في المائة ! .
أما السواد الأعظم من النازحين ، أي أكثر من ٩٠ في المائة ، فهم “ساكنين مِلٍح” في بيوت الأقرباء والمعارف ، لا يدفعون قرشاً ولا تعريفة!
سألت ابني أنس الذي نزح من أركويت إلى جبرة لمدة أسبوعين ثم إلى اللعوتة في الجزيرة لمدة شهر ، ثم إلى القضارف في طريقه مع أمه إلى الحبشة:
كم كان عددكم في المنزل ؟ تلاتين ! .
هل دفعتم إيجارا عندما حولوكم إلى بيت فارغ؟ لا يابا ، ملح ساااكت! .
هل دفعتم حق الأكل؟ لا يا بابا ، ديل كانوا بغسلوا لينا ملابسنا! .
وذكرت لي الدكتورة ف. ع. ز. أنها شاهدت وعايشت ما يجعل القلب يرتجف فرحاً . فأهالي المنطقة جميعا يتقاسمون الأسرّة والأفرشة وكبابي الشاي والحِلل والصحون والملايات والثياب مع النازحين من سكان الخرطوم . بل ترك بعض أهل المنطقة منازلهم الخاصة بفراشها وانضموا لمنزل الأسرة الكبيرة حتى يتمكنوا من استضافة النازحين في منازلهم . وسارع أصحاب البيوت التي تحت التشييد إلى أكمال النواقص من أبواب وشبابيك لاستخدامها في إيواء النازحين . وتمضي الدكتورة قائلة : في وقت الغروب ترى المزارعين يأتون فرادى وجماعات يوزعون اللبن والخضروات من مزارعهم على بيوت الوافدين الذين هم لا تربطهم بهم أي صلة قرابة أو معرفة.
أيها السادة والسيدات ، الغافلون والغافلات ، عليكم أن تعلموا أن معظم النازحين ، في الأقاليم أو في المناطق الآمنة في العاصمة ، “مُمَلِّحين”، لا يدفعون إيجارا ولا يشترون قوتا! .
عليكم أن تعلموا أن عدد سكان البيت الواحد في الأقاليم والمناطق الآمنة في العاصمة قد تضاعف من ثلاثة إلى عشرة أضعاف! .
على سبيل المثال ، الساكنون في بيت ط. م. في كوستي أكثر من خمسين! .
والساكنون في بيت الموظف البسيط أ. م. في ربك ارتفع من خمسة أشخاص إلى ثلاثين! .
نعم ، أصبح من المألوف أن تجد ثلاثين أو أربعين رجلا وامرأة وطفلا في البيت الواحد! .
ولكننا نغمض أعيننا عن كل هذا ونركز على شقتين أو ثلاثين شقة أو مائة شقة وصل إيجارها إلى مليار جنيه! .
فلنسأل أنفسنا : هل هؤلاء النازحون الذين نجوا بجلودهم من حرب الخرطوم ونيالا خرجوا وهم يحملون المليارات؟ .
وهل جميع المغتربين قادرون على دفع إيجارات لأقرابهم بالمليارات؟ .
ثم السؤال البدهي : هل هناك شقف فارغة أصلا لاستيعاب النازحين ، أم أن هناك فقط عشرات الشقق والبيوت المعروضة للإيجار في كل مدينة؟ .
لا توجد شقق ، ولا بيوت فارغة للإيجار ، ولكن توجد بيوت وحيشان ودواوين حدادي مدادي لاستقبال الزوار “مِلِح”.
وفوق ذلك توجد قلوب تسع جميع الأهل مهما كان عددهم .
نحن نعيش على قيمنا أيها الناس! .
قيمنا في التضامن ، واقتسام النبقة ، هي كنزنا الحقيقي! .
لقد بقيت قيمُنا فبقينا!
ولولا هذه القيم لفنينا!
فطالما بقيت القيم ، فإن البيوت والمصانع والشوارع والبنية التحتية لم تتهدم في الحقيقة.
وفي حالة الإحباط الناتجة عن صدمة الحرب ، يجب ألا نصدق أؤلئك الذين يريدون نزع الثقة من نفوسنا ، وإلحاق هزيمة معنوية بنا قبل الهزيمة العسكرية ، بل يجب أن نكون على ثقة تامة بأننا لا نزال على قدر عظيم من القيم الإنسانية التي يندر وجودها في عالم اليوم.
يكفينا اعتزازاً (فنحن لا نفتخر) أننا في ظل هذه الحرب تمكنا من البقاء بفضل قيمة التضامن الإجتماعي لدينا : أقل من عشرة في المائة من السكان أعالوا أكثر من ٩٠ في المائة.
وهذا مما لا مثيل له في أي مكان.
في أحياء الثورة لم يعد لمعظم السكان رواتب ولا مصدر لكسب العيش . فكيف يأكل الناس، وكيف يتعالجون وليس هناك أمم متحدة ولا منظمات إغاثة؟
كل هؤلاء يعيشون بفضل قلةٍ قليلة مستطيعة في الداخل وبفضل المغتربين والمهاجرين.
ما من مغترب في الخليج أو مهاجر في أوروبا أو أمريكا إلا وقد سخر موارده بالكامل ليس فقط لأسرته وأقاربه ، بل أيضا للجيران والأصدقاء والمعارف ، ولأشخاص لا يعرفهم.
ليس لدينا مؤسسات تهتم بالإحصاء ، ولكني أمضي إلى القول بلا تردد : إن كل سوداني وسودانية قد سخر كل ما لديه لمواجهة احتياجات أهله ومعارفه وأصدقائه ولأعمال الخير عامة. وهناك كثيرون دخلوا في ديون من أجل سد احتياجات أهليهم ! .
ومن الإشراقات الجميلة أن خدمة بنكك قد استمرت طوال الحرب ، وساهمت مساهمة عظيمة في إغاثة الناس. وفي هذا الصدد دعا أحد الأصدقاء إلى المطالبة بمنح خدمة بنكك جائزة نوبل للسلام! .
وعلى صعيد المطالبات، لا نبالغ أيضا إن طالبنا اليونسكو باعتبار قيمة التضامن الاجتماعي في السودان تراثاً إنسانياٍ عالميا ينبغي صونه والمحافظة عليه من أجل البشرية! إن قيمنا في التضامن الإجتماعي تمثل إستراتيجية تكيف مع الأوضاع الصعبة ما أحوج عالمنا إليها.
نحن بشر … لسنا أفضل الخلق ولا أسوأهم … ومن المعلوم أن منظومة القيم ترتبط بالوضع الاجتماعي/الأمني والاقتصادي لأي مجموعة بشرية … عندما يسوء الوضع الأمني و الاقتصادي وتصبح قضايا تأمين الطعام والشراب غير مضمونة تنهار منظومة القيم والأخلاق … ووفقا لعالم النفس والاجتماع ماسلو وهرمه الشهير للاحتياجات البشرية تأتي الحاجة للطعام في أساس الهرم بعدها الحوجة للأمان … وعندما لا يتهم تأمين الحاجات الأساسية لا يمكن الحديث عن القيم والأخلاق … والسودانيين عانوا من الحروب “عدم الأمان” والجوع طويلا لذا الادعاء أن قيمنا وأخلاقنا هي كما هي هذا وهم تكذبه الشواهد على الأرض
جزاك الله خيرا% فألسودان معروف بكرمه لايخفى على احد ولكن نقول للحاقدين اللهم اجعل كيدهم فى نحرهم
في القرى والبلدات حدث الكثير من التضامن نعم ، لكن في المدن الكبيرة الأمر يختلف ، والموضوع لا يقتصر على شقق فاخرة لأنها قليلة في مدن السودان بل الأمر يتعلق ببيوت عادية وبيوت جالوص ورواكيب للايجار وهناك من يؤجرون سراير للنوم في الأسواق بل هناك من أجر شجرة وتحتها سريرين ب 400 ألف وهناك من أجر جملون من الزنك أربعة متر في أربعة متر ب 500 ألف دعك من ايجار غرفة ومعاها حوش صغير ، نعم هناك حتى داخل المدن الكبيرة من استضاف نازحين وغالبا هم أقرباءهم أو أنسباءهم لكن عددهم لا يقارن بالمؤجرين
أمر أخر أود الاشارة اليه وهو ما هذا النظام الفاسد الشيطاني الذي يجعل لشخص القدرة أن يستأجر بيت بمليار جنيه بينما شخص اخر لا يجد حتى ثلاثة ألف جنيه ليشتري بها خبزا لأطفاله؟؟؟
عموما هذه الكوارث والصدمات هي التي تشكل منعطف في تاريخ الشعوب وتمثل بوصلة للمستقبل وأخشى ما أخشاه أن تمر هذه الكوارث والصدمات وينساها الناس وكأن شيئا لم يكن فلا يستفيدون منها ولا يؤسسون عليها وكل من يريد ابداء الجانب الايجابي فقط مثلك هو من هذا النوع النساي الذي لا يستفيد من الدروس والعبر
شكرا ياأستاذ على المقال الواقعي الرائع الذي يبعث الأمل وويحي قيم التضامن والتكافل التي يتميز بها شعبنا. والشعب قادر -بإذن الله-على دحر من أذلوه وشردوه من العسكر الفاسدين والمليشيات