عندما تفقد الدولة أهليتها!

فقدان الأهلية مصطلح قانوني يعنى عدم القدرة والجدارة على القيام بالعمل، ويْوصف به الشخص الذي لا يستطيع تحمل مسئولية نفسه ومن يعول نتيجة لمرض نفسي أو خلل عقلي، فلا يعتد بما يقول أو يفعل وتقوم الجهات العدلية في الغالب بتعيين وصي عليه.
يطلق هذا المصطلح على الحكومات التي تبدد موارد شعوبها في الفساد والاستبداد وتقوم بقتل وتشريد مواطنيها وتعمل على تمكن الموالين لها من مفاصل الدولة دون مؤهلات، وتهتم بتطوير ودعم المؤسسات الأمنية على حساب الصحة والتعليم. هذه السياسات الخرقاء تقود حتما لانهيار النظام الصحي والتعليمي ويتوالى انهيار بقية مؤسسات الدولة. فينفلت الأمن وتسود حالة من الفوضى تصاب بعدها الحكومة بالشلل وتعجز عن القيام بدورها في توفير إحتياجات المواطنين الأساسية من أمن ورعاية صحية وتوفير الضروريات التي يتحقق بها الحد الأدنى للحياة.
لازم فقدان الأهلية والفشل حكومة الحركة الإسلامية الساقطة طيلة فترة حكمها البلاد لثلاثة عقود كاملة. عم فيها الفساد بصورة لم يسبق لها مثيل حتى في أكثر الأنظمة فسادا حول العالم. كان السفه وعدم المسؤولية هي السمة المميزة للمسئولين الذين برعوا في إثراء قاموس البذاءة بكلمات ومصطلحات يعف العاقل عن ترديدها. والمدهش في أمر هذا الفساد (اب عيناً قوية) إنه يْكشف في تقارير المراجع العام السنوية ويْناقش في البرلمان وتْكون له لجان تحقيق وتْشرع له قوانين، بل وتم تكوين مفوضية خاصة به تتبع لرئاسة الجمهورية مباشرة. كما تحدث عنه أعضاء الحركة الإسلامية في مؤتمراتهم وأحاديثهم العامة والخاصة. لم تشهد المحاكم السودانية رغم هذه التقارير والأحاديث والشواهد البائنة محاكمة أي فاسد طيلة فترة حكم الانقاذ. ابتدعوا فقه التحلل والسترة للمداراة على رفاقهم الذين استباحوا المال العام.
لم يتوقع الشعب السوداني استمرار هذا الفساد بعد سقوط نظام الانقاذ، ولم يتوقع أن تتكرر تجربة الحكومات الفاشلة مرة أخرى بعد هذه الثورة العظيمة، ولكن سرعان ما خاب هذا الظن لاسيما بعد إنقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر والذي أعاد (حليمة لعادتها القديمة) عبر الكارتيلات الأمنية المتعددة التي مازالت تعبث وتنهب وتبدد ثروات البلاد بعد انفرادهم بالسلطة وارجاع وتمكين لصوص الحركة الإسلامية مرة أخرى.
صْدمت قطاعات واسعة من الشعب السوداني بالداخل والخارج من التقرير الذي بثته قناة ال CNN الأمريكية عن سرقة ذهب السودان بواسطة شركة فاغنر الروسية. أوضح التقرير أن أكثر من ٢٢٣ طنا من الذهب تقدر قيمتها ب ١٣ مليار و٤٠٠ الف دولار قد تمت سرقتها وتهريبها في العام ٢٠٢١ فقط. لم يدخل منها سنتا واحدا لبنك السودان، تذهب كل هذه المبالغ إلى حسابات الشركات الأمنية وشركات آل دقلو في الخارج. وليتواصل هذا النهب والتجريف لثروات البلاد من الذهب عملت المخابرات الروسية عبر ذراعها في أفريقيا شركة فاغنر بدعم ومساندة انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر والوقوف ضد كل قرارات الإدانة في مجلس الأمن الدولي باستخدام حق الفيتو الروسي. تعمل المخابرات الروسية أيضا في تثبيت أركانه بتدريب عناصر الجنجويد والأمن السودانية على أحدث وسائل القمع، وتعمل كذلك مع الأجهزة الأمنية في مجال الإعلام الإلكتروني و اختراق وتهكير الصفحات الفاعلة على وسائل التواصل الاجتماعي.
هذه الأموال التي نْهبت وتْنهب كفيلة بأن تجعل السودان ينهض في أقل من خمس سنوات دون مساعدة أو منحة من أحد. ومازالت وزارة المعادن تواصل ذات النهج، إذ رشح في الأخبار أن هناك تفاهمات وعقود ستوقع مع شركة كندية وأخرى أسترالية للتنقيب عن الذهب في شمال وشرق السودان بصورة يكتنفها الغموض ولم تلتزم فيها وزارتي المعادن والمالية بالشفافية والمعايير المتبعة والمطلوبة في مثل هذه العقود.
في الأسبوع الماضي أيضا كشفت سلطات الجمارك بمطار الخرطوم أنها ضبطت شحنة تحوي كمية كبيرة من المخدرات قادمة من الهند عبر إسرائيل وجنوب السودان إلى مطار الخرطوم. تناولت صحيفة الانتباهة هذا الخبر مؤكدة أن هذه الشحنة تخص حركتين من حركات دارفور المسلحة. إحداهما موقعة على إتفاق سلام جوبا وبالتالي مشاركة في حكومة الأمر الواقع العسكرية التي تدعمها حركات سلام جوبا.
الغريب في الأمر أن الحركة خاطبت سلطات الجمارك (بكل بجاحة) لتسليمها شحنة المخدرات مبررة في خطابها أنها تستخدم هذه المخدرات لأغراض التدريب وأن من حقهم استيراد المخدرات بحجة أن هناك جهات أخرى نافذة قامت وتقوم بذلك. لم يصدر حتى الآن أي تصريح ينفي أو يْثبت هذا الخبر الخطير من قيادات الجمارك وشرطة مكافحة المخدرات أو أي جهة رسمية أخرى.
من الواضح أن حكومة الإنقلاب ماضية كسابقتها الانقاذ في طريق الفساد ونهب موارد وثروات الشعب السوداني وتسليم أمن ومقدرات البلاد لعصابات التهريب ومافيات الفساد العالمية بصورة أشبه بما حدث بجمهوريات الموز في أمريكا اللاتينية.
واجب الساعة يفرض على جميع الناشطين بالداخل والخارج تصعيد حملات الاحتجاج ضد شركات الدم الروسية. وضد قائد الجنجويد وكارتيلات الأجهزة الأمنية لإيقاف تهريب ثروات البلاد إلى روسيا والدول الأخرى دون إتباع الإجراءات المعروفة في التصدير، كما يفرض على جميع شرفاء القوى الثورية الوطنية بمختلف مسمياتهم وتوجهاتهم للتوحد لإسقاط هذا الانقلاب اليوم قبل الغد. فمن يتولون أمر الدولة الآن عصبة من اللصوص و(الرباطة) لا ضمير ولا أخلاق لهم. أي ساعة يقضونها في السلطة تعني المزيد من النهب والتدمير لمواد وثروات هذا الشعب، وتعني المزيد من القتل والتشريد، وتعني المزيد من التخريب والتفكيك لمكونات الدولة السودانية.
عماد خليفة، كاليفورنيا
30, يوليو 2022