اوباما في هيروشيما: نحو عالم خال من أسلحة الدمار الشامل؟ ‏

في نهاية عام 1978 قمت بزيارة لمدينتي هيروشيما وناغازاكي ، وقد تركت الزيارة آثاراً غاية ‏في القسوة على نفسي ، فكتبت في مفكرتي عندئذ: “الفيلم الذي شاهدته في سينما حديقة السلام ‏بهيروشيما والذي جرى تصويره بعد إلقاء أول قنبلة ذرية على مدينة مأهولة كان محزناً للغاية وعَكَسَ ما ‏يمكن أن نسميه النفس البشرية في أسوأ تجلياتها”. تركت المشاهد الكئيبة للمواطنين ، وهم يتدافعون نحو ‏النهر ويلقون بأنفسهم في مياهه بحثاً عما يخفف من آلامهم بعد أن انسلخت جلودهم تماماً نتيجة ‏لدرجات الحرارة العالية التي خلفها الانفجار ، آثاراً مؤلمة عالقة بذاكرتي إلى يومنا هذا. لم تكن زيارتي ‏لما يعرف بمتحف القنبلة أقل وقعاً على نفسي فقد خلفت ، هي الأخرى ، ذكريات باقية عن بشاعة ‏الحرب وخطورة السلاح الذري. اشتمل برنامجي للمدينة على زيارة للوحة التي سجلت عليها أسماء مئات ‏الآلاف من الضحايا الذين فقدوا أرواحهم نتيجة لانفجار القنبلة ، وقد ظلت هذه القائمة تُجَدد بصورة ‏مستمرة إلى يومنا هذا وذلك بإضافة المزيد من أسماء الضحايا. لم ينج من الانفجار المشؤوم ، كما هو ‏معلوم ، حتى الأجيال اللاحقة من أهل المدينتين وغيرهم بسبب الآثار البيئية المدمرة التي خلفها وراءه. ‏من بين هذه الآثار الارتفاع الملحوظ في نسبة الإصابة بمرض السرطان بين مواطني المدينتين ‏التعيستين وغيرهم ممن ظلوا يتعرضون للإشعاع الذري حتى اليوم. ‏
تجددت هذه الأحاسيس وأنا أشاهد على شاشة التلفزيون الرئيس الأمريكي باراك أوباما وهو ‏يحتضن ، خلال زيارته مؤخراً لمدينة هيروشيما ، أحد الشيوخ عند لقاءه بمجموعة من الأحياء الذين ‏عاشوا تلك التجربة المرة ، وعانوا من جحيم القنبلتين اللتين ألقاهما الطيران الأمريكي على كل من ‏هيروشيما ونغازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية. أكدت مشاعر الحزن والألم التي علت وجه الشيخ ‏الياباني أن تعاقب السنوات لم يقلل أبداً من حجم المأساة بالنسبة لمن عايشوها فعلياً أو وجدانياً. بدا ‏الرئيس أوباما نفسه متأثراً بما شاهد خلال جولته ، وقد انعكس ذلك على الخطاب الذي ألقاه بالمناسبة. ‏ومع أن الخطاب لم يشتمل على اعتذار عن لجوء الحكومة الأمريكية لاستعمال هذا السلاح المدمر ‏لأسباب سنتناولها أدناه إلا أنه كان قوياً وواضحاً فيما يتعلق بضرورة عدم تكرار هذه التجربة مرة أخرى ‏في أي مكان بالعالم. ‏
‏ كان من الطبيعي أن تثير هذه الزيارة ذات الرمزية العالية الكثير من الجدل بين مؤيد ومعارض ‏حول قيامها وكيفية تنفيذ برنامجها. قد يكون من المبالغة في القول أن الزيارة نكأت الجراح القديمة لكنها ‏كانت ولا شك وراء إثارة العديد من المشاعر والآراء المتباينة ، ولعل تأخير قيامها لسبعين عاماً منذ ‏نهاية الحرب العالمية الثانية يؤكد مدى الحساسية التي تكتنف الأمر. من الطبيعي كذلك أن تظل حقيقة ‏إلقاء قنبلتين ذريتين من العوامل التي تنعكس سلباً على العلاقات الأمريكية اليابانية خاصة على ‏المستوى الشعبي ، وذلك بالرغم من التطور الهائل الذي شهدته هذه العلائق منذ نهاية الحرب العالمية ‏الثانية. جاءت زيارة الرئيس أوباما للمدينة محاولة لتجاوز هذه العقبة العاطفية ، غير أن ردود الفعل ‏الشعبية التي عكستها العديد من المقالات في الصحف الأمريكية أكدت أن تحقيق هذا الهدف قد يحتاج ‏المزيد من الجهد وأن ما قام به الرئيس أوباما لا يعدو كونه الخطوة الأولى في مشوار قد يطول. كانت ‏زيارة الرئيس الأمريكي لهيروشيما تاريخيةً بمعنى الكلمة فهو أول رئيس أمريكي يقوم بزيارة لموقع تفجير ‏القنبلة الذرية وهو لا يزال على كرسي الرئاسة. ‏
على الجانب الأمريكي كان اليمينيون رافضين تماماً لفكرة الزيارة باعتبار أن تفجير القنبلتين ‏كان رد فعل طبيعي على العدوان الياباني على الأراضي الأمريكية ، بينما كان المعتدلون يرون أن ‏التفجير كان ضرورياً باعتبار أن الخسائر الهائلة كانت سبباً وراء استسلام الحكومة اليابانية ووقف ‏الحرب والحفاظ على المزيد من الأراواح التي كان من المتوقع أن تفقد على الجانبين. في ظل هذه ‏الظروف اضطر الرئيس للقول بأنه لا يذهب إلى هيروشيما للاعتذار عما قامت به الحكومة الأمريكية ‏وإنما للتعبير عن موقفه الداعي لعدم تكرار هذه التجربة في المستقبل. المعروف أن الحرب بين الدولتين ‏بدأت بالهجوم المباغت الذي شنه‎ ‎الأسطول الياباني على ميناء بيرل هاربر الأمريكية في عام 1941 ‏مما قاد لإلحاق أضرار بالغة بالبحرية الأمريكية وقاد إلى دخول الولايات المتحدة الحرب إلى جانب ‏الحلفاء. لذلك فعندما أثير موضوع اعتذار الرئيس اوباما عن إلقاء القنبلتين ، ارتفعت داخل الولايات ‏المتحدة الكثير من الأصوات التي تعترض باعتبار أن اليابان لم تعتذر عن هجومها المباغت على ‏ميناء بيرل هاربور والذي كان وراء ما عرف بحرب المحيط الهادي.‏
ظل الهجوم المباغت على بيرل هاربر شوكة في خاصرة العلاقات الأمريكية اليابانية بالرغم من ‏التحالف القوي الذي يربط بين البلدين في الوقت الحالي. كان وقع الهجوم على النفسية الأمريكية قاسياً ‏بصورة قد لا يعادلها إلا الهجوم الذي قام به تنظيم القاعدة على عدد من المواقع داخل الولايات المتحدة ‏ومن بينها مبنى التجارة العالمية في 11 سبتمبر 2001. وكما كان هجوم 11 سبتمبر سبباً في دخول ‏الولايات المتحدة بثقلها في الحرب ضد الإرهاب وقيادة التحالف الدولي في هذا المجال ، فقد كان ‏الهجوم على بيرل هاربر كما أشرنا أعلاه سبباً في قيادة الولايات المتحدة الحلفاء في حربهم ضد دول ‏المحور. وكما كان الهجوم على مبنى التجارة العالمية سبباً في الحرب الإعلامية الشرسة ضد الإرهاب ‏ولدرجة ما الاسلام ومشاركة هوليوود في هذه الحرب ، فقد تصدرت هوليود والتلفزيون الأمريكي الحرب ‏الإعلامية ضد اليابان حتى بعد عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. ومن منا جيل السبعينات من ‏القرن الماضي من لم يشاهد الفيلم الشهير “تورا … تورا … تورا” عن الهجوم على بيرل هاربر. وكما ‏تصور السينما والتلفزيون الأمريكي حالياً الإرهابيين “المسلمين” بصورة منفرة ، فقد كانت صورة الياباني ‏في الأفلام الأمريكية منفرة كذلك. ولعل ذلك كان من الأسباب وراء العديد من الدعوات المعارضة داخل ‏الولايات المتحدة لزيارة أوباما لهيروشيما خاصة وأن اليابان لم تبد اعتذارها حتى الآن عن الهجوم ‏المباغت على بيرل هاربر. ومما أثار حنق اليمين الأمريكي أن رئيس الوزراء الياباني أعلن خلال زيارة ‏الرئيس أوباما لهيروشيما أن برنامجه لا يشمل زيارة لبيرل هاربر في المستقبل القريب. ويبدو أن الأمر ‏في طريقه لأن يصبح واحدة من قضايا الحملة الانتخابية الرئاسية التي تشهدها الولايات المتحدة هذا ‏العام ولو من باب المكايدة حيث تساءل المرشح الجمهوري المحتمل دونالد ترامب عن السبب في عدم ‏إثارة الرئيس أوباما لموضوع الهجوم الياباني على بيرل هاربر.‏
من الواضح أن الرئيس أوباما يولي اهتماماً لموقعه في التاريخ ، لذلك فقد جاء إصراره على ‏زيارة هيروشيما مع الإعلان صراحة عن عدم الاعتذار عن إلقاء القنبلتين. وقد أكد الخطاب الذي ألقاه ‏الرئيس أن الهدف الأساس من زيارته هو أن تصبح منطلقاً لحملة عالمية ضد أسلحة الدمار الشامل ‏تقود في النهاية لخلاص العالم من خطر هذه الأسلحة. كان خطاب الرئيس فلسفياً عاطفياً إن صح ‏التعبير فهو يشير باستغراب إلى أن الأحداث الوحشية في هيروشيما ونغازاكي جاءت بسبب الحرب بين ‏أكثر الدول رقياً وتطوراً في العالم في ذلك الوقت ، الدول التي كانت ثقافتها الأغني بالفن والحضارة ، ‏والتي أهدى مثقفوها العالم أفكاراً نيرة عن العدالة والتوافق والسلام. ودعا الرئيس أوباما في ختام خطابه ‏لأن تستغل الاكتشافات العلمية للحفاظ على الحياة وليس العمل على تدميرها ، وأشار إلى أن على ‏الجميع العمل من أجل مستقبل نختاره نحن البشر ، مستقبل لا تمثل فيه هيروشيما وناغازاكي بداية ‏الحرب النووية ولكن بداية صحوتنا الأخلاقية. ولعل زيارة الرئيس أوباما لفيتنام قبل اليابان تؤكد أن ‏الرجل يسعى من أجل تجاوز عفبات تاريخية في علاقات بلاده مع آسيا.‏
غير أنه وبالرغم من هذا الحديث الذي ينضح تفاؤلاً فإن زيارة أوباما للشرق الأقصى تجئ في ‏وقت تشهد فيه المنطقة الكثير من ظواهر التوتر بسبب انتاج كوريا الشمالية للقنبلة الذرية ، والأوضاع ‏المضطربة في منطقة جنوب بحر الصين. واعتقادنا أن القليل من المراقبين قد يشاركون الرئيس أوباما ‏نظرته المتفائلة بشأن دعوته من أجل التخلص من الأسلحة النووية ، خاصة وأن المزيد من الدول ‏تسعى الآن لامتلاك التكنولوجيا النووية في الوقت الذي لم تحقق حملات التخلص من الأسلحة النووية ‏تقدماً يذكر. ولعل وجود دول يعتقد أنها تعمل على تطوير اسلحتها النووية مثل الهند وباكستان وإسرائيل ‏بالإضافة لكوريا الشمالية التي أشرنا لها أعلاه خارج إطار الاتفاقية الدولية للحد من الأسلحة النووية يؤكد ‏أن العالم لا زال يخطو خطواته الأولى نحو التخلص من السلاح النووي المدمر. ومن غير المؤكد ما إذا ‏كان الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأمريكي في هيروشيما والذي تناولناه في مقالنا هذا سيؤدي لانفراج في ‏الأمر بما يفتح أبواب الأمل أمام عالم خالٍ من أسلحة الدمار الشامل. ‏

[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..