الوهم الانصرافي وخداع الواقع

حسن عبد الرضي الشيخ
في ظل الأوضاع العصيبة التي تعصف بالبلاد، يتردد في الأوساط السودانية، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مصطلح “الانصرافي” كناية عن ذلك الشخص الحالم، المنفصل عن الواقع، الذي يتجاهل الحقائق القاسية ويلوذ بأوهام مريحة. والمفارقة أن لدينا نموذجًا حيًا لهذا النمط، شخصٌ من لحمٍ ودم، يتحدث بلساننا ومن ذات طينتنا، يدعى محمد محمود السماني، الذي اختار لنفسه لقب “الإنصرافي”، ليكون انعكاسًا دقيقًا لحاله وممارساته.
لقد تكشفت حقيقة هذا الرجل في الآونة الأخيرة، إذ انكشف للناس باعتباره أحد مروجي الوهم، وبدأت الأصوات تتعالى للمطالبة بمحاسبته، خاصة في أرض المهجر، حيث تتوفر آليات قانونية لملاحقة المحرضين على الحرب والقتل وانتهاك الحقوق. لكن أخطر ما يفعله “الإنصرافي” لا يقتصر على التحريض، بل يتجلى في تسويق الأوهام، وأحدثها وهم “العودة”، حيث يرسم صورة زائفة عن استعادة الحياة الطبيعية، ويروّج لمبادرات مشبوهة مثل تأجير الحافلات وإطلاق حملات إعلامية مضللة، تدفع بالكثيرين نحو مصير مجهول، ظنًا منهم أنهم سيعودون إلى وطن مستقر.
صدمة العودة والواقع المرير
لكن الواقع، كعادته، لا يخضع للأوهام. فما إن تطأ أقدام العائدين أرض الوطن حتى تصدمهم الحقائق المرة : لا استقرار، لا خدمات، لا أمان، ولا فرص عمل في ظل اقتصاد يتهاوى وحكومة غارقة في أتون الحرب. وحينها تتبخر الأحلام، لتحل محلها أسئلة وجودية لا مفر منها : كيف سأعيش؟ كيف أوفر قوت يومي؟ من يضمن سلامتي في بلد تسيطر عليه الفوضى؟
إنها لحظة الإدراك المتأخر، حين يكتشف العائدون أنهم وقعوا ضحية خطاب زائف، وأن أحلام العودة لم تكن سوى فخ، نصبته جهات تستغل العاطفة الوطنية لمآرب أخرى. وهنا، يجد المخدوع نفسه أمام خيارين أحلاهما مر : إما أن يعود إلى الإنصرافي ليبيعه مزيدًا من الأوهام ويغرقه في نظريات المؤامرة، أو أن يواجه الحقيقة المرة ويسعى جاهدًا لإيجاد مخرج فردي في بلد لم يعد يوفر حتى أبسط مقومات الحياة.
الأسئلة التي لا مفر منها
وهنا تبرز الأسئلة الجوهرية التي حاول البعض تجنبها طويلًا : من أشعل الحرب ولماذا؟ من كان مسؤولا عن حماية المدنيين، وهل فعل ذلك حقًا؟ هل كانت هناك فرصة لوقف النزاع، ومن الذي أضاعها؟ والأسوأ من ذلك، لماذا ظل البعض يروج لأكاذيب تخدم مصالح نخبة سياسية، بينما يُترَك المواطن البسيط ليحترق في نار الحرب؟
الإجابة واضحة ومؤلمة : لم تكن الحرب يومًا من أجل المواطن، بل كانت مجرد حلقة في صراع نفوذ بين أطراف لا ترى في الناس سوى وقود لمعركتها. والأسوأ أن بعض الضحايا ساهموا، عن غير قصد، في إطالة أمد هذه الحرب عبر تصديق السرديات الخادعة، ليجدوا أنفسهم مجرد أرقام هامشية في مخططات أكبر منهم.
العودة إلى الوعي قبل العودة إلى الوطن
الحقيقة القاسية التي يجب أن يدركها الجميع هي أن العودة الحقيقية ليست بالضرورة عودة جسدية، بل عودة إلى الوعي. لا يمكن بناء مستقبل دون مواجهة الحقائق وفهم الماضي وتجنب الأخطاء التي قادتنا إلى هذا الوضع. لا يكفي أن نندب حظنا أو نلقي اللوم على الآخرين، بل علينا أن نتساءل بصدق: كيف نوقف هذه الدوامة؟ كيف نبني وطناً لا يكون فيه المواطن مجرد ورقة تفاوض بين أطراف الصراع؟
إن الحل يبدأ من الوعي، من إدراك أن خلاصنا لا يأتي عبر الانسياق وراء الأوهام، بل عبر مواجهة الواقع بشجاعة، والعمل على خلق وطن يحترم إنسانية مواطنيه، لا أن يستخدمهم كأدوات في صراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل.