شاهد عيان : لحظات إنفجار ثورة أكتوبر 64

عندما نتحدث عن ثورة أكتوبر 64 ، نـَمُرُّ مروراً عابراً بلحظات إنفجارها في ميدان عبد المنعم ولا نتمعن في التفاصيل التي جعلت إشعال الفتيل قوياً لم يُخـْـمَـدِ .
كنت شاهد عيان على لحظات إشعال فتيلها. لكنني كنت أقلل من أهمية شهادتي : فقد كنت هامشياً مثل آلافٍ غيري خرجوا في مواكبها ، يافعاً “متابعاً القطيع” وحسب، فما قيمة شهادتي!
لكنني الآن أعتقد أن شهادتي قد تفيد . وأكتب هنا عن ما شاهدته ضحاً يوم 22 أكتوبر في ميدان عبد المنعم مُفـَصِّلاً لحظات إشعال فتيل الثورة ، علَّ تفصيلي يفيد في التمعن في “ديناميكية الإشعال” .
1.
الزمان : ضحى يوم الخميس 22 أكتوبر 1964 .
المكان : ميدان عبد المنعم ، جنوبي كوبري الحرية ، الخرطوم .
حينها كنت طالباً في الثانوية . وصلت إلى الميدان ماشياً من المدرسة بمعية عشرات من زملائي ، في قمصاننا البيضاء وأرديتنا الكاكي . وكنا في حزنٍ شديد على مقتل القرشي الليلة السابقة (الأربعاء 21 أكتوبر). فقد كان مقتله كربة قاسية علينا ، رغم أنه لم يكن من قبل معروفاً لأي منا . وأحسب أن مقتل أي طالب برصاص البوليس قهراً في ذلك الزمان كان ليُحْدِث نفس التأثير : لقد كان تجربة َ ظلمٍ وجورٍ غيرَ مسبوقةٍ في سجل السودان الحديث حتى وقتها .
عند وصولنا طرف الميدان كانت الصلاة على القرشي قد خُتمت لتوها في تلك اللحظة ؛ فلم أرَ الصلاة تقام . (وللتوضيح : كان ميدان عبد المنعم “صقيعة ” بلا سور) . وفي الجانب الذي وصلناه كان هناك لوري بدفورد (سفنجة) واقفاً متجهاً نحو خارج الميدان . ضهريَّـتـُة كانت في إتجاه قلب الميدان حيث أقيمت الصلاة ، لكن اللوري نفسه لم يكن واقفاً في قلب الميدان ، بل قريباً من الشارع الذي يحفه: فقد وجدت نفسي بالقرب منه دون زحام رغم حضوري متأخراً ، في حين أن آلاف الذين وصلوا قبلنا وأدوا الصلاة على القرشي كانوا أبعد منا اليه وكانوا قادمين (نحوه ونحونا) مع الجثمان . وكانت كوامر البوليس تصطف عبر ذلك الشارع.
كان سائق اللوري جالساً على مقعده على اليمين ، وكانت هناك إمرأة واحدة على اليسار. ولم ترَ عيناي إمرأة ً غيرها أبداً في كل ذلك المشهد ، لا في اللوري ولا في الميدان. فهل كان ذلك التجمع الرهيب ، في أساسه، للصلاة على الميت وحسب ، ولذا لم تشارك النساء ؟ أم كان في عينيي رمد ، فلم أرَ إلا إمرأة واحدة ؟ أم أصابني الآن شيئ من الخرف ؟ لا أدري .
وسَرَت في مجموعتنا معلومة ٌ عُظمى بوزن الجبال: ” دي أم القرشي “… ” الفي اللوري أم القرشي “… … …” أم القرشي “… … وقاوم كثيرٌ منا خنقة العَبْرَة ، وانكبست صدور.
كانت جالسة ً في أقصى يسار مقعد اللوري الأمامي : السائق في طرفٍ وهي في الطرف الآخر ، وبراحٌ خالٍ بينهما . وكانت في ثوبها الأبيض غارقة ً في حرقة الحشى التي لا يعرف مقدار حرقها الإنسان وتمزيقه إلا من قـُـتل إبنـُها البارحة عدواناً وظلما . ولم أعاين الوجه، لكنني لم أسمع نحيبها ، ولا مناحها ، ولا كلمة منها – وقد كنت طيلة الوقت حول اللوري حتى غادر الميدان.
2.
فـُـتح البابان الحديديان في خلفية اللوري واُنـْزِلت ضَهَرِيته ورُفع الجثمان في كفن أبيض على عنقريب وبرش أبيض . ووُضع العنقريب على أرضية اللوري الخشبية ، بالطول ، تكاد وسادته تلامس الصاج الفاصل من السائق . وسريعاً صعد كثيرٌ ممن بدأوا لي طلاباً جامعيين ، زملاء الشهيد ، صعدوا على زوايا الوري من كل جانب ، تسلقاً ، حتى امتلأت زواياه : رِجْـلٌ واحدة داخل اللوري والأخرى خارجه …
وكان هناك كلام خطابي، وليس هتافاً ، عبر “مايكرفون اليد” المحمول يصدر ممن كانوا يقفون أمتاراً خلف اللوري وكان الكلام موجهاً إلى الجموع من حولهم. ولا أذكر الآن كثيراً مما قالوه ، لكن جملة ً واحدة منه علقت بذاكرتي وهي:”.. وسنقتص من العساكر الخونة!”. ولم أتبين القائل لأصِفـَه . (فهل من شاهد آخر يكمل نقصي في هذه النقطة أو في غيرها؟)
وأوشك اللوري أن يتحرك.
وفي تلك اللحظة ، رأيت رجلاً يصعد سريعا ًعلى اللوري حاملاً ذات مايكرفون اليد نفسه ، حتى وقف على بمبة العجل الخلفي اليمين ، موجهاً المايكرفون ، من فوق زاوية اللوري العليا، جهة كوامِر البوليس الواقفة عبر ذلك الشارع المحيط بالميدان ، ملأى ببوليس الطوارئ متراصين، والذين راعتني صرامة وجوههم تحت خوذات الفولاذ .. وأذكر هتافه في اتجاههم وكأنه يهتف الآن أمامي :
“إلى الجحيم يا عساكر … إلى الجحيم يا عساكر … …. …. ”
“إلى الجحيم يا عبود … إلى الجحيم يا عبود … …. …. ”
ولم اسمع في حياتي صوتاً يلهب النفوس ويُشـْعِل ثورة غضبها مثل ذلك الصوت المزلزل الثاقب ، صوت ثائرٍغاضبٍ جريح ، ينفذ إلى خلاياك فتتوهج نيران جوفك … وتشتعل الروح والدم معاً توقاً للتضحية والثأر . الثأر للشهيد المسجَّى أمامك مضرجاً بدمائه ، ولأمِّه المكلومة المتوحدة بين عشرات الآلاف من الرجال.
كلها ثواني معدودات .. نزل بعدها الرجل على الأرض ، ليتحرك اللوري (قيل إلى القراصة قرية القرشي بالنيل الأبيض) . وكان الغليان اكتمل ! وبدأ الإنفجار.
(للأسف لا أذكر ملامح ذلك الرجل الآن . فهل يكمل شاهد غيري نقصي هذا بوصفه أو تعريفه ؟)
3.
وانتشرنا مهاجمين في كل إتجاه …
انتشرنا بغضب هائل لا نبالي ، كحرائق كلفورينا في صيف جاف …
وتحولت صرامة الجند وخوذاتهم من مرعبة إلى أهدافٍ جاذبة..
وتعلمون ما حدث بعد ذلك وهو معروف.
اشتعلت الخرطوم … واشتعل السودان معها … ثم كضم وكتم السودان كله في عصيان مدني لم يكن له مشابهٌ في تاريخ الأمم… لأيام عصيبة ، في توتر رهيب ، وممثلو الشعب (جبهة الهيئات) يفاوضون العسكر في القصر؛ حتى حلَّ عبود المجلس العسكري يوم 31 أكتوبر متنحياً عن السلطة وسلمها للجبهة ممثلة ً لثورة الشعب العظيم . وكان انتصار الثورة بطعم ولون ورائحة الحرية…وكم كان فرح النفوس ، المشبع بالنصر والآمال والأحلام ، رائعاً وجميلا … لكننا ارتددنا بعد شهور ناكصينا !
وقد توافقني أن لعبود – رحمه الله – و لحِكـْمته وتواضعه ، دوراً كبيراً في نجاح ثورة أكتوبر ، يجب ألا يتجاهله كتاب تاريخنا . فبتنحيه أنقذ بلاده من احتمالاتٍ مجهولة العواقب كانت واردة في حالة رفضه التنحي . وما اكتشفه الناس فيما بعد عن مدى نزاهته ، يؤكد نـُبـْلـَه وجدارته بشارةِ أكتوبر . واليوم نجد على صدرنا نقيضه تماماً في كل شيئ : مريضاً بالرئاسة ، يبطش بالناس بجهاز أمنه ليل نهار لإخداعهم لطغيانه واستبداده (الذي سمعته يسميه ببلاهة “حُكـْمِي”، كأنه ملكٌ خاصٌ خالص)، مدمراً بلاده بالظلم والفساد والفشل ، ويُمسك شعبه رهينة ً لتفادي المحاسبة. اختلافهما اختلاف النـُبل عن الخزى ، واختلاف الكرامة عن الإنحطاط ؛ فانتبهوا .
4.
في ميدان عبد المنعم أشعل ذلك الرجل ، بهتافه في وجه العسكر ، فتيلَ الثورة قبل ثواني فقط من تحرُّك اللوري … فلنتمعن في “كيمياء هتاف ذلك الرجل بالتحديد” وفي “وجود الجثمان المُسَـجَّى” و”وجود الأم المكلومة” و”كونها وحدها من جنسها في بحر من الرجال” …الخ!
وقد يتساءل المرء : هل كان للفتيل أن يُـشـْعـَل بغير ذلك الرجل؟ وهل كان له أن يُـشـْعـَل بعد مغادرة اللوري؟ أو يُـشـْعـَل إن لم تكن الأم موجودة ؟ أو إن كانت الأم موجودة لكن بصحبة آلاف النساء يتقاسمن معها الكربة ؟ … الخ. وهي أسئلة منطقية .
أما القول بأن هذه العوامل تجمعت بالتصادف، وليس بالتخطيط ، وبالتالي قامت أكتوبر بالصدفة، فمعيب ومختل. لأن كل حدث في الماضي ، تافهاً كان أو مهماً، يمكن تقسيمه إلى عوامل صغيرة تكون حدثت دون تخطيط (سمها بالصدفة) ولولا حدوثها متصاحبة ما كان الحدث ليحدث. فهل كل حدث في الحياة تم بالصدفة ؟ لا أعتقد . ثم أن دافع الثورة هو تراكم الظلم ، ومُـشعِلـُها هو حدث مناسب واحد، في الزمان والمكان المناسبين . ولولا الظلم ما قامت ثورة ولو خـُطـِّط لها الف عام . وقد اكتمل الظلم لأكتوبر ، كما اكتمل الظلم الان وزاد . فكذا قيام الثورة القادمة لن يكون صدفة ً أبدا.
للأسف يصعب تكرار الإشعال في ثورة أخرى بتجميع وترتيب نفس العوامل ؛ وذلك لإختلاف الزمن- أي: اختلاف تفكير الناس واستعدادهم للتضحية ، واختلاف عقلية الطغاة من الجانب الآخر. بمعنى : لا يفيد تجميع عوامل إشعال أكتوبروحبكهن لتكرار الثورة مرة أخرى .
” طقهن آ بفيد …
لازمِك توب جديد
وبي أياً تمن !”
[كمَّلـْـتوا دموعنا يا حِميد ومصطفى . إن سمعتها ولم تبكِ ، بَلـِّغ فوراً : إحساسك انسرق!
عزراً لإنحرافي هنا لحظة ًعن لب الموضوع : إذ لا استطيع المرور على عم عبدالرحيم دون أن أحيي هَرَمَيْ السودان السامِقـَيـْن.]
أنعجز ، نحن الأغلبية الموجوعة، أن ندفع تمن توب جديد للوطن وقد اعترى وهو يشادد حول خاصرته ذكرى أكتوبر وأبريل ! وأن نتفق علي نوع التوب : إن كان توب زراق أو حرير فوكوشيما؟ وأن نتفق على قيادة وحكومة ثورة وبرنامج وخطة ، مُحدَّدات ومعلنات ، نصطف ونموت خلفهن ؟ لا ولم ولن نعجز. المهم ألا نـُكـَرِّر سبتمبر أبداً : عارَنا نحن الأحياء ، وجُرحَ قلوبنا وجُرحَ الوطن النازف الذي لن يندمل. لا نـُكـَرِّره لأن قادة الإنقاذ ليس لهم ذرة ُ ضميرٍ ليتورعوا عن قنص أطفال المدارس العزل الأبرياء مرة أخرى. فقد أكدوا أنهم يفوقون كل مجرمي الدنيا خساسة ً وخزى .
أملي ، بعد إعلان قيادة وحكومة ثورة وخطة خلاص، أن يتقدم فوراً “الشياب” ،الذين أكلوا خريفهم – مثلِي- عُزَّلاً وبأكفانهم (بدلاً عن الشباب) ، وبالآلاف، لإشباع شهية الطاغية للقتل اشباعاً كاملاً حتى يفيئ عن مرضه ويفك حلقوم الوطن . التفاصيل لاحقاً .
ثورة الشباب من دون قيادة وخطة ، قد تنجح كما في تونس ؛ وقد تكون “شخـْتـَكْ بخـْتـَكْ” كما في مصر ؛ وقد تنجح وتـُسْرَق تدريجياً كما في أكتوبر وأبريل ؛ وقد تكون إعادة ً لسبتمبر ! إذن – للضمان- هيا نتـَّحِد على قيادة وحكومة وخطة وخارطة طريق ؛ وعاجلاً .. ولِما لا تكون في خلال اسبوع اسبوعين؟ فمواعين الإتحاد جاهزة ؛ والطاغية الآن يُـقـَتـِّلـَنا .. نتلكع في شنو ولي متين؟
أحمد إبراهيم
[email][email protected][/email]