خبر وظاهرة!!

خبرٌ وظاهرة تلازما خلال اليومين الماضيين، وصاحبتهما تداعياتٍ عديدةٍ أبرزها فرحة عارمة ? غير مُبرَّرة حد الدهشة ? اجتاحت قطاعات واسعة من الدولة واحتفاءٌ كبيرٌ في أكثر من محفل، وبصورةٍ أكثر وضوحاً في وسائل الإعلام المُختلفة (مرئية ومسموعة ومقروءة). بالنسبة للخبر، فهو يتعلَّقُ ببدء ضخ النفط من حقول دولة جنوب السودان عبر أراضي دولة السودان مُستفيداً من المُنشآت السودانية (عقب توقُّف لأكثر من عام) وبمُعدَّل نحو (376) ألف برميل/اليوم وذلك خلال أُسبوعين. أما الظاهرة التي استصحبت هذا الخبر، فهي تتمثَّل في انخفاض أسعار العملات الأجنبية بصفةٍ عامَّة والدولار بنحوٍ خاص مُقابل الجنيه السوداني، بمُعدَّلٍ قارَبَ الجنيه خلال يومين!
ما يُثير الدهشة ? ولا يزال ? الفرحة العارمة والـ(مُبالَغْ) فيها بهاتين الحالتين من قبل قطاعات مُختلفة بالدولة، وبَدَا موضوع إعادة ضخ النفط الجنوبي عبر الأراضي السودانية وكأنَّه طوق النجاة أو السبيل الأوحد لاستعادة عافية الاقتصاد السوداني، وتأكيداً من البعض ? لا سيما وسائل الإعلام ? على بدء انتهاء الأزمة الاقتصادية السودانية، مُستشهدين بالـ(ظاهرة) التي أشرنا إليها (انخفاض أسعار العملات الأجنبية مُقابل الجنيه السوداني) التي تبعت هذا الخبر، واعتبارها دلالة ومُؤشِّر على صحَّة اعتقادهم، وهذه بحدِّ ذاتها مُشكلة! فبالنسبة لانخفاض أسعار العُملات وبخاصَّة الدولار مُقابل الجنيه السوداني، إنَّما جاء نتيجة لتكهُّنات وأقاويل ومُوِّجهات أفراد وجماعات غير رسمية (ليست حكومية)، ولم يأتِ بُناءً على أُسُسٍ ومعاييرٍ اقتصاديةٍ علمية وعملية سليمة ومرئية ومحسوسة، مما يُدلِّلْ على هشاشة وهُلامية اقتصادنا، وخروجه ? أي الاقتصاد ? عن سيطرة ورعاية الدولة وتحكُّمها وإدارتها لاتجاهاته، واستجابته لمُوجِّهات غير موضوعية ولا واقعية وبعيدة عن العلمية، ولنتساءل جميعنا ما هي دواعي ومُبرِّرات هذا الانخفاض المُفاجئ ومن المُتحكِّم فيه؟ وما الذي انتجه السودان فعلياً للحصول على قوة إضافية لعملته الوطنية لتقفز خلال يومين مُقابل العُملات الأجنبية؟!
فيما يتعلَّق باستئناف ضخ النفط الجنوبي عبر الأراضي السودانية، وما استصحبه من فرحةٍ عارمة، يفترض العقل والمنطق والعلم تفسيراً واقعياً لهذه الفرحة! وللإجابة على ذلك، سنفترض جدلاً أنَّ كمية النفط الجنوبي التي سيتم ضخَّها (بعد أُسبوعين) عبر أراضي السودان تبلغ (600) ألف برميل وليس (376) ألف برميل/اليوم، وسنفترض جدلاً ? أيضاً ? أنَّ السودان الشمالي لن يحصل فقط على رسوم مرور هذه الكمية من النفط والتي أصبحت (رسوم المرور) بنظر الدولة واحدة من الأسرار الخطيرة التي يجب حجبها عن الرأي العام، وإنَّما سنفترض أنَّ دولة الجنوب لن تأخذ أي مُقابل من هذه الكمية، أي أنَّ الجنوب سيتنازل كُلَّيةً عن عوائد الـ(600) ألف برميل لصالح السودان (مع أنَّ هذا من المُستحيلات) ولكننا سنفترضه جدلاً، فكم هو صافي العائد من هذه الكمية المُصدَّرة من النفط حتَّى نفرح كل هذا الفرح ونعتبره مخرجاً لأزمتنا الاقتصادية؟ وذلك عقب خصم الالتزامات المُترتِّبة على تصدير هذه الكمية (النقل، وحقوق الشركات، والإهلاك وغيرها)! ثم ما أثر صافي هذا العائد على مُعالجة قضايا اقتصادنا الـ(مُعقَّدة) والـ(مُتشعِّبة) ما بين تعليمٍ وصحة وسلع وخدمات وأمن … إلخ؟ والأهمَّ المُساهمة في ردم الفجوة المالية الكبيرة جداً التي خلَّفتها الديون الخارجية وانعكاساتها المُتزايدة والخطيرة على توازُن الاقتصاد العام!
ما ذكرناه بعاليه، ليس تثبيطاً للهمم، ولا رفضاً للاتفاق مع دولة الجنوب، ولا تحجيماً للسعي نحو مُعالجة القضايا الخلافية التي يُعاني منها السودان كالاتجاه نحو الاتفاق مع بقية الجماعات أو الحركات المُسلَّحة أو إيقاف النزاعات والاقتتال الدائر في أكثر من منطقة بالسودان، بل العكس تماماً، فإنَّنا ? كغيرنا من أهل الوجعة في السودان ? نتطلَّعُ إلى مزيدٍ من الجهود الإسعافية والمرونة في حسم تلك القضايا المحورية (الاتفاق وإحلال السلام)، ولكن في إطارٍ من العقلانية والتدبُّر والواقعية. والفرحة العارِمة والاحتفاء ? غير المُبرَّر والمُبالغ فيه ? يتقاطعان مع العلمية والموضوعية في مُعالجة أزمة الاقتصاد السوداني.
فالبترول تحفَّه الكثير من المخاطر التي يجب الاعتبار منها، كارتهانه بحالة السِلْمْ بين شطري السودان والمناطق المُحيطة بمواقع إنتاجه (سواء في السودان أو جنوبه)، فضلاً عن تعرُّضه للنضوب بمرور الوقت وتذبذب أسعاره العالمية، ومحدودية مُساهمته في عجلة الاقتصاد مُقارنةً ببقية القطاعات الإنتاجية الأُخرى، وغيرها من العوامل التي تدعو كل ذي عقلٍ وبصيرة إلى عدم الاعتماد عليه كمورد واحد ورئيسي للدخل القومي.
مُعالجة الاقتصاد السوداني ? بعد لطف الله ? بيد الدولة، عبر الاهتمام بإعادة إشراك القطاعات الإنتاجية الأُخرى وأهمَّها القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، ومنح الأولوية للمُنتِج السوداني (وليس بيع مقدرات الدولة للغير)، إنَّنا ? ورغم غرابة الرجاء والأمل ? نتطلَّع إلى إتاحة مزايا للمُنتِج أو الـ(مُستثمر) الوطني والمحلي كتلك التي تمنحها الدولة للأجانب! أي أنَّنا ندعوا أن يُعامَل الوطنيون كالـ(أجانب) وتلك مُفارقة أملتها ظروف الراهن الأليم الذي أطاح بالمنُتِجْ السوداني (رغم فعاليته)، وترك المساحات واسعة أمام الأجانب الذين لم ولن ينفعوا السودان وأهله مهما قدَّمنا لهم من مُغريات ودونكم واقعنا الاقتصادي الراهن، وليكُن هناك جردٌ بالرقم مع أننا لسنا بحاجة لذلك!
وسيظل واقعنا الاقتصادي في قاعه هذا ? بل في تراجعٍ مُتزايد ? إنْ لم نتدارك الأمر بموضوعية وعقلانية، وأولى هذه الخُطوات رفع كافة الرسوم الإنتاجية التي لا تُعتبر إيراداً للدولة بقدرما هي عبء يُضعف عجلة الإنتاج ويُوقفها، ومنح المزايا التحفيزية العديدة للقطاع الزراعي السوداني والصناعات المُرتبطة به، والتقليل من الاعتماد على مصدر دخل واحد والتوجُّه نحو تنويع مصادر الدخل القومي، وهو ما تفعله الدول التي تفوقنا إنتاجاً في البترول بمراحل تصل لملايين البراميل في اليوم ومع ذلك تعمل لتنويع مداخيلها، مع إشراك المتخصصين والمخلصين من أبناء الوطن وتقليل التوجُّهات الإقصائية القائمة الآن.. والله المُستعان.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. فعلاً … الله المستعان !

    وللأسف أنما هي ورقة من ورقيات الأنقاذ تلعب بها علي عقول الشعب السوداني !

    وحالنا لن ينصلح طالما هذا أسلوب الحكومة … الضحك علي الذقون !

    من اعتزَّ بغيرِ اللهِ ذلَّ، ومَن اعتدَّ بمالِه قلَّ، ومَن اعتمدَ على عقلِه زلَّ، ومَن اهتدى بغيرِ كتابِ ربِّه ضلَّ، ومَن اعتمد على اللهِ فما ذلَّ ولا قلَّ ولا ضلَّ.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..