اول تيرموس فى الناريخ

خلال تواجده بموسكو اهدانى الاخ المدير العام لهيئة الآثار والمتاحف السودانية د: عبد الرحمن علي محمد مشكورا البوما فاخرا شيقا من اعداده مع العالم يولى اندرسون وعنوانه ” اشراقات مضيئة… من متحف السودان القومى ” .
لفت نظرى فى هذا الالبوم وشروحاته هذا الاناء (او الدورق) المعروض بالرقم 502 فى الصورة رقم 76 على الصفحة 88 فى “اشراقات مضيئة” (الشكل رقم 1). وموضوع نقاشى هنا هو الجزء الاخير من التعليق الذى يقول: ” ـــ كان يستخدم لتخزين السوائل ، وعلامات العنخ المفرغة ما هى الا نوع من الزخرفة”
صورة شكل رقم -1: اناء او دورق فخار ? ناوه ? كوش (مروى) القرن الاول الميلادى- ارتفاعه 13.6 سم
متجف السودان القومى بالرقم 502 .
“اناء او دورق غير عادى، كروى الشكل تقريبا وله قاعدة دائرية، عنق ضيق مقبضين على كلا جانبيه. جزؤه العلوى مزخرف بزخارف نباتية بينما جزؤه السفلى أعلى القاعدة به اربع علامات عنخ مفرغة، وهناك اناء اخر صغير مغلق موضوع داخل هذا الاناء او الدورق ويلتصق بجزئه العلوى. وجود الاناء الصغير داخل الاناء الكبير يرجح ان هذا الاناء او الدورق كان يستخدم لتخزين السوائل، وعلامات العنخ المفرغة ما هى الا نوع من الزخرفة”- (اشراقات مضيئة ص 88 بالرقم76 ) .
اعتقد ان الاناء ليس لتخزين السوائل وانما تيرموس لحفظ النبيذ باردا، وعلامات العنخ المفرغة ليست نوع من الزخرفة فقط وانما الغرض الاساسى منها هو حرية مرور الماء والهواء للداخل والخارج.
والان بالترتيب. عندما كنا اطفالا بعطبرة فى اوائل الخمسينات من القرن الماضى كان لدينا زيرا قناويا، ولكننا كنا نشرب من الزير السودانى الذى بقربه ونتجنب الزير القناوى لأنه أصم لا يبرد الماء وهو عديم الجدوى فى طقس السودان الحار باختلاف الزير السودانى ذو المسام. وعندما نقل الوالد رحمة الله عليه لوادمدنى تركنا الزير القناوى بعطبرة بالرغم من ان الوالده رحمة الله عليها كانت تفتخر به نسبة.
لان والدتها من قنا. كان لدينا كذلك بلاصا لا يتسرب منه اى سائل يستخدم لحفظ المش. وكذلك كانت هناك قلة انيقة تبرد الماء الى حد كبير ولكنها اقل ترشيحا وبالتالى تبريدا من الزير السودانى وللأسف لا ادرى مصدرها هل هو مصريا ام سودانيا.
لاشك ان معرفة البعض بالفخار والقيشانى والسراميك وربما غيرها من الأسماء والاصناف وصفاتها اكبر من معرفتى فمعذرة، ولكنى سردت هذه المقدمة لتوضيح تسلسل الخواطر التى أدت لهذه الفكرة.
طقس السودان تغير فى ظرف الألفى عام الماضية، ولكن بالرغم من انه كان اقل سخونة منه الان فلا شك ان درجة الرطوبة كانت أعلى بكثير منها الان، وهذا يزيد الشعور بسخانه الجو بشكل كبير. ليس برودة الطقس فقط تحفز على بعض الاختراعات وانما السخونة كذلك.
من الطبيعى ان الشارب السودانى فكر فى طريقة يبرد بها مشروبه. و لتبريد الماء وجد الحل فى الزير السودانى ذو المسامات، ولكنه لا يصلح لتبريد النبيذ لانه سيفقد جزءا كبيرا من المشروب بالترشيح، ولهذا اخترع هذا (الجهاز) لتبريد النبيذ والاحتفاظ به باردا حتى شربه. ويمكن القول بأن هذه كانت اول محاولة فى التاريخ لاختراع (التيرموس).
اولا- رمز علامة العنخ به خمس فتحات لم يكن هناك داعى لعملها اذا كان الرمز فقط للزخرفة، او كان يمكن الاكتفاء بالفتحة الرأسية، بل ان هذه الفتحات قد شوهت الرمز الى حد ما. ثم ان الفتحة العليا فى شكل دائرة والمفروض ان تكون فى شكل ثمرة الكمثرى (أو ما يسمى بشكل الدمعة) وقد اختار الخزاف الشكل الدائرى على ما يبدو لان عمله وسده اسهل منه لشكل ثمرة الكمثرى. الثلاث فتحات الجانبية فى شكل مثلثات وفى رمزالعنخ لا توجد فتحات ولا مثلثات فى هذه الاكتاف ولكن يبدو ان الخزاف عملها للحوجة لها واختار الشكل المثلثى كذلك لسهولة عمله وسده. اما الفتحة الدائرية فى الوسط فتدعو للعجب لانها من وجهة نظرى كفيزيائى ومن مفهومى الفلسفى والروحى لرمز العنخ هو ان تقاطع الخط الرأسى والخط الافقى هو نقطة تركز الطاقة ولا يجوز ان تكون مفرغة. نستخلص من ذلك انه اما ان يكون رمز العنخ قد فقد فى ذلك الوقت بعض هيبته واما ان تكون هناك حاجة ماسة لعمل فتحة او الاثنين معا.
ثانيا- على الاناء الخارجى عنصر زخرفة العنب الذى يدل على ان استخدامه مرتبطا بالنبيذ كما على الطاسة فى الشكل 2.
صورة شكل رقم 2- طاسة فخار-فرص- كوش (مروى) متحف السودان القومى بالرقم 709
” النمط الزخرفى البسيط الذى على هيئة نبات العنب، المحصور بين خطين، يلتف حول جسم هذا الاناء. وعنصر زخرفة العنب يوجد كثيرا على الفخار المروى” (اشراقات مضيئة ص 71 بالرقم 59 )
ثالثاا- حجم الاناء صغير جدا لكى يستخدم فى حفظ الماء لان هذا ليس عمليا وكذلك لحفظ الزيت مثلا. حفظ العطر جائز ولكن فى هذه الحالة وكذلك للزيت سيكون الاناء الخارجى ليس ذو معنى.
رابعا- من المقاسات المعطاة ( للجهاز) يمكن تقدير سعته 300 سم مكعب وهى نفس سعة الكوب فى الصورة رقم 77.
خامسا- الاناء الخارجى يمكن ان نقول انه من النوع الأصم (يشبه فخار القناوى اوالبلاص المصرى او الانفورا اليونانية)، لنوعية فخار الاناء الداخلى (وهو الذى يهمنا) لدينا اربعة احتمالات: فخار الزير السودانى فخارالقلة فخار الزير القناوى فخار البلاص المصرى او الانفورا اليونانية.
نستبعد فخار الزير السودانى لان فقد النبيذ من الترشيح سيكون كبيرا الا اذا كان الهدف هو تركيز النبيذ وفى هذه الحالة سيكون الاناء الخارجى غير ذى معنى. ويمكن ان نقول نفس الشئ عن فخار القلة ولا فرق بينهما سوى ان الترشيح والفقد والتركيز سيكون اقل. يتبقى فخار الزير القناوى وفخار البلاص.
والان- طريقة عمل هذا (الجهاز):
*يملأ الاناء الداخلى بالنبيذ ويغطس (الجهاز) فى حوض من فخار من نوع الزير السودانى به ماءأ ويتراوح ارتفاع الماء فيه بين الفتحة العليا والفتحة السفلى لعلامة العنخ.
*يبرد الماء فى الحوض بالتبخر من سطحة الخارجى (مثل الزير السودانى).
*يبرد النبيذ فى الاناء الداخلى (للتيرموس) اساسا بتلامس سطحه الخارجى بالماء البارد فى الحوض وربما جزئيا بتبخر الماء من جزء من ذلك السطح الذى يبتل الى حد ما بالجاذبية الشعرية.
*بمجرد رفع الاناء من الحوض يتسرب الماء من داخل (الجهاز) فى ثوان.
*يكون النبيذ فى ابرد حالاته فى الصباح الباكر ثم تبدأ درجة حرارة الطقس فى الارتفاع. يأتى الان دور الاناء الخارجى ودوره الاساسى هو عزل الاناء الداخلى حتى لا يلامس الهواء الساخن. ولذلك تغلق فتحات علامة العنخ بسدادات مجهزة من الخشب او الطرور وربما الأسهل من ذلك هو لف (التيرموس) بكامله فى فراء او جلد او شملة من الصوف لحفظ النبيذ باردا لاطول فترة ممكنة حتى استخدامه.
*يسكب الشارب النبيذ فى الكوب ويملأ الاناء الداخلى من جديد بالنبيذ الدافئ ويعيد ا(الجهاز) للحوض.
*اغلب الظن ان الحوض يحتوى على عدد من هذه (الاجهزة) تشرب بالتوالى او من عدة اشخاص ثم يعاد ملؤها واعادتها للحوض.
ملحوظات:
اولا- ربما عثر اثناء الحفريات او ربما سيعثر فى المستقبل فى مكان واحد على عدة (اجهزة) من هذا النوع وربما داخل او بجوار الحوض المذكور. وبالمناسية يمكن ان تؤدى الطاسة فى الصورة رقم 59 (شكل رقم2) دور الحوض هذا اذا كان حجمها مناسبا نسبة لان مقاساتها لم ترد فى التعليق على الصورة.
ثانيا- يمكن بسهولة اثبات صحة او خطأ هذه الفرضية وذلك بعمل تجربة لا تحتاج الا لمقياس حرارة وزير مكسور وجردل ماء وشوال من الخيش.
د. محمد عمر سليمان – موسكو
[email][email protected][/email]