مأساة لا تُروى!

منعم سليمان
قبل ثلاثة أيام، وقع حادث يمزق القلب وينكسر له الحجر. أكثر من خمسين معدنًا تقليديًا ماتوا دفنًا حقيقيًا بحثًا عن الذهب في منجم بمنطقة “هويت”، بين عطبرة وهيا. ماتوا خنقًا تحت ركام انهيار المنجم… دفنوا أحياءً في ظلام لا يرحم تحت أرض وطنٍ فقد روحه كما إنسانيته. لم يسمع بهم أو يبكهم أحد: لا نعي، لا حداد، لا إعلام، ولا كلمة تعزية رسمية. ولم نسمع من البرهان، ولا من دميته كميل إدريس، سوى صمتٍ مريب، صمت يشبه القبر ذاته!
هذا الصمت ليس إهمالًا أو صدفة، بل هو أساس الدولة التي يبنيها البرهان وكيزانه، دولة لا مكان فيها للإنسانية؛ تقتل الروح وتحتفي بالمآسي، وتمجّد البندقية لا الإنسان، وقد عبّر عنها عبد الفتاح البرهان في لحظة صدقٍ نادرة، قائلاً : (المجد للبندقية)!
ما جرى ليس حادثة عابرة، بل فصولٌ من رواية سودانية حقيقة قائمة قاتمة تُروى على وقع الدم والعنف والكراهية، تحتضنها معزوفة (بل بس)، تلك السيمفونية الجنائزية التي يعزفها أنصار سلطة متوحشة بلا قلب أو ضمير، وبلا رحمة.
هؤلاء المعدّنون، الذين فقدوا أرواحهم، وما يزال بعض رفاقهم يحفرون في أعماق الأرض بحثًا عن قوت يومهم بعد أن ضاق بهم سطحها، هم صورة الإنسان السوداني المثقل بالمعاناة، المختنق تحت أنقاض الفقر وسقف الحروب، تلك الحروب التي ما فتئ الكيزان يشعلونها عبر ذراعهم العسكري، المُسمّى زورًا “جيش السودان”. بل هم دم هذا الوطن النابض، الذي يصارع الحياة ليبقى حيًّا في وطنٍ أقل قسوةً وعهرًا وأكثر إنسانية.
إنها ليست مأساة عارضة، بل مرآة سوداء تعكس وجدان دولة تنمو على جثث أبنائها. دولة لا تقتل شعبها فقط بالرصاص، بل تزهق أرواحه أيضًا بالإهمال، والتجاهل، وبالاحتقار. لا تأبه لدموع اليتامى، ولا لنشيج الأمهات، ولا لوجع الفقراء.
هذه مذبحة وليست مجرد أرقامٍ باهتة في تقارير باردة، ولا خبرًا عابرًا في نشرةٍ تلهث خلف الضجيج… بل هي نزيفٌ مفتوح في خاصرة الوطن، وجرحٌ نازف في قلب كل روحٍ لا تزال تنبض بالإنسان.
وهي صرخة مدفونة تحت الركام المناجم، تتوسل أن يتوقف هذا العبث الكيزاني ـ العسكري، الذي لا يكتفي بقتل الجسد، بل يمضي إلى طمس الروح، محولاً هذا البلد من وطنٍ كان جديراً بالإنسان… إلى مقبرةٍ مفتوحةٍ لا تنبت فيها سوى رائحة الموت.