فِي جَدَلِ الحِمَارِ والبَرْدَعَة: ما تراه أهاجَ نِظامَ السُّودانِ على مُعارِضيه؟!

كمال الجزولي

محيِّر أمر النظام السُّوداني، تتداخل جداول الأولويَّات في ناظريه، و”تهتزُّ”، على قـول أمـير الشـُّعراء، “كالدِّينار في مرتجِّ لحـظ الأحـول”؛ فيروح ينام مـلء عيونه، كما المتنبي، مع الفارق، عن شوارد المقاتلات الإسرائيليَّة حديثة الصُّنع تنتهك مجالنا الجَّوي، ضمن مجالات أخرى في شرق ووسط أفريقيا، جاعلة منه ميداناً لمناوراتها، جيئة وذهاباً، وتخترقه أسرابها، بدل المرَّة مرَّات، كانت آخرتها خلال الأسابيع الماضية، بهدف اختبار قدرتها على استهداف المناطق البعيدة جغرافيَّاً، وهي مطمئنَّة، تماماً، إلى عجز راداراتنا عن التقاطها (سودانايل ـ عن موقع “ديبكا” الإسرائيلي على الشَّبكة؛ 19 يناير 2013م)؛ بينما نفس النظام يكاد لا يكفُّ عن أن يحصي على معارضيه أنفاسهم، ولا يغمض له جفن حتى عن أخفت ما يندُّ عنهم، حركة أو سكوناً، قياماً أو قعوداً، وكان آخر ذلك يوم حشد أقصى عدوانيَّته عليهم، ضمن تداعيات التوقيع على ميثاق “الفجر الجَّديد”، بالعاصمة اليوغنديَّة، مطلع يناير 2013م، بين قوى “الإجماع الوطني” وقوى سياسيَّة ومجتمعيَّة أخرى، من ناحية، وبين “الجَّبهة الثَّوريَّة” ومفرداتها، من الناحية المقابلة. وللدِّقَّة، فإنَّ محلَّ الحيرة، هنا، ليس، فقط، ردُّ فعل النِّظام إزاء الحدث، بل، أيضاً، التَّراجع غير المنتظم للمعارضة إزاء ردِّ فعل النِّظام!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)

أما مبعث حيرتنا، في الحالين، فهو أننا، على قدر ما أمعنَّا النَّظر في الميثاق الذي وددنا، بالمناسبة، لو انَّ كاتبه بذل عناية أكثر في تدقيقه، لتخليصه مما علق به من أخطاء اللغة، وركاكة الصِّياغة، وعيوب التِّكرار، وشوائب التَّراكيب، وعدم ضبط المصطلح، وغيره، إلا أننا لم نقع فيه، مع كلِّ ذلك، على فكرة واحدة يمكن اعتبارها مباغتة للنظام، أو منفلتة عن خطِّ المعارضة المعلن، والمفترض أنه معروف، منذ زمن طويل، للقاصي والدَّاني، بما في ذلك النِّظام نفسه، مما يمكن التماسه من خلال محورين تأسيسيين في الوثيقة، بصرف النظر عما رزئت به من تطويل مُمِل، وتفصيل مُخِل، وذلك على النحو الآتي:

أولاً: أفصح النَّصُّ عن أنَّ غرضه هو توحيد أوسع جبهة للمعارضة، شاملة “الجَّبهة الثَّوريَّة”، بهدف إسقاط النِّظام، فهل ثمَّة تثريب عليه في ذلك؟! هل يستطيع النِّظام أن يزعم أنه بوغت بذلك الإفصاح؟! للإجابة نأخذ في اعتبارنا المَلاحِظ الخمس الآتية:
(1) مشروعيَّة هدف المعارضة، أيَّة معارضة، من إسقاط نظام الحكم، والحلول محله، لا يستطيع أن يجحدها حتى النِّظام نفسه، كونها مستمدَّة، أصلاً، من منطق الصِّراع السِّياسي ذاته، إذ أنَّ المعلوم من أبجديَّات علم السِّياسة، بالضَّرورة، أنَّ المعارضة ليست ضرباً من الهواية تمارَس لتزجية أوقات الفراغ، بل هي مشروع جادٌّ لطلب السُّلطة، وإلا استحالت إلى محض عبث! ويؤكد د. الواثق كمير على هذا المعنى، مستنداً حتَّى إلى إفصاحات أكثر منظري السُّلطة تشدُّداً، حين يعترفون بأن “وجود المُعارضة في النِّظام السِّياسي يمثِّل كابحاً للطغيان، ويوفِّر البديل للحكومة” (أمين حسن عمر، تلفزيون السُّودان، مساء 10 يناير 2013م ـ ضمن: الواثق كمير؛ “الكرة في ملعب الرَّئيس”، ورقة غير منشورة).

(2) طلب الإجماع الوطني للسُّلطة ليس سرَّاً، وليس من مصلحة النِّظام أن يكون سرَّاً! ولعلَّ من أحدث تعبيراته المعلنة ديباجة الجُّزء الأوَّل من وثيقة (البديل الدِّيموقراطي) الموسومة بـ (البرنامج)، والصَّادرة في يونيو 2012م، والتي جرى التَّأكيد عليها بحذافيرها، مجدَّداً، في مقدِّمة “إعلان أم درمان السِّياسي” الصَّادر في 16 ديسمبر 2012م، قُبيل توقيع ميثاق كمبالا، مباشرة، وقد دقَّ كلاهما جرس إنذار بأن البلاد “تسرع الخطى نحو الهاوية، تدفعها سياسات الفساد، والاستبداد، والظلم الاجتماعي والجِّهوي، والتَّردِّي الاقتصادي، وإصرار النِّظام على فرض أحاديَّة سياسيَّة وثقافيَّة في مجتمع تعدُّدي، الشَّئ الذي أدَّى إلى إهدار كرامة الوطن والمواطن”؛ وأن تلك هي نفس السِّياسات التي “أدَّت إلى انفصال الجَّنوب، وإشعال الحرب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وأبيي، ودفعت البلاد نحو حرب باردة مع دولة الجَّنوب”، مِمَّا “يضع الجَّميع أمام مسئوليَّة وطنيَّة كبرى لا بُدَّ من مواجهتها بما تستحقُّ من استعداد نضالي .. لإحداث اختراق حقيقي في المشهد السِّياسي، لتحقيق تطلعات جماهير شعبنا المسحوقة بالفقر والمعاناة من أجل بديل ديموقراطي، لتبتدر معركتها من أجل التَّغيير الشَّامل بكلِّ الوسائل السِّياسيَّة والجَّماهيريَّة السِّلميَّة”.

(3) النِّضال السِّياسي الجَّماهيري المدني السِّلمي هو، إذن، وسيلة الإجماع المشروعة، والمعلنة، والمعتمدة لتحقيق غاياته، وكما رأينا فقد أكَّد عليها كلا “البرنامج” و”الإعلان”، ومن يتمعَّن فيهما يستطيع أن يجزم بأنَّهما إنَّما كانا يمهدان لميثاق “الفجر” الذي، وإن صدر بعد “الإعلان” بأقلِّ من ثلاثة أسابيع، إلا أنه أعقب “البرنامج” بزهاء السِّتَّة أشهر، وهي فترة كافية للنِّظام كي يتعرَّف على استراتيجيَّات الإجماع الوطني، فيتخذ حيالها، وفي وقتها، ما يشاء من المواقف، لا أن ينتظر ستَّة أشهر، ثم ينتفض، فجأة، كما لو بوغت بوثيقة “الفجر” التي لم تبعد، قيد أنملة، عن “البرنامج” الباكر، دع “الإعلان” المتأخِّر!
(4) ولئن كانت الوثيقتان كلتاهما قد عبَّرتا عن التَّطلع لمشروع وطني مجمع عليه، وفق مبادئ أساسيَّة، كأنْ “تدار البلاد، خلال الفترة الانتقاليَّة .. بحكومة انتقاليَّة تشارك فيها (القوي السِّياسيَّة الموقعة علي وثيقة البديل الدِّيموقراطي) و(فصائل الجَّبهة الثَّوريَّة)، مع مراعاة تمثيل النِّساء، والمجتمع المدني، والحـركات الشَّبابيَّة، والشَّخصيَّات الدِّيموقراطيَّة المستقلة”؛ فإن ذلك هو عين ما سعت وثيقة “الفجر” للتَّعبير عنه صراحة؛ فلا جديد، إذن، يبرِّر اتخاذ موقف منها لم يتخذه النِّظام من رصيفتيها السَّابقتين!

(5) وعلى حين تستمسك قوى الإجماع بوسائل النِّضال السِّياسي الجَّماهيري المدني السِّلمي، وأشكالها المعروفة، فإنها لا تحتفظ لنفسها بحقِّ الفيتو على أيَّة وسيلة نضاليَّة لأيِّ طرف آخر، بل ولا ينبغي لها بطبيعة الحال. إبراز الاختلاف في الوسائل ضرورة تنشأ، بداهة، من الحقِّ الأصيل للأطراف المتمايزة في التنويه بعناصر تمايزها، لدى أي اتفاق بينها بالحدِّ الأدنى، تماماً كحقِّها في إبراز عناصر تطابقها. وهذا ما أكَّدت عليه (الفقرة/ثالثاً/الوسائل) في وثيقة “الفجر”ا، بنصِّها، حرفيَّاً، على “احتفاظ كلِّ قوَّة بوسائلها”، بل وبترجيحها، صراحة، وسائل الإجماع “السِّلمية”، عبر تأكيدها على أنَّ الجَّبهة الثَّوريَّة “تدعم استمرار وتصاعد العمل (السِّلمي الجَّماهيري)، وتَحوُّله لانتفاضة (شعبيَّة سلميَّة)، كأداة (رئيسة) لإسقاط النِّظام، وتدعو جماهيرها للمشاركة في (الانتفاضة السِّلميَّة) ضدَّ النِّظام”. وفي رسالته، أواخر يناير 2013م، إلى رئيس الإجماع الوطني يؤكد رئيس الجَّبهة الثَّوريَّة على هذا المعنى، بقوله: “نثمِّن عالياً تأكيدكم الدَّائم، وفي كلِّ المناسبات، على اختياركم للعمل المدني السِّلمى والدِّيموقراطي لإسقاط النِّظام مع احترامكم لخيارات الآخرين .. وندعو جماهيرنا في المدن والريف، مرَّة أخرى، للمساهمة الفاعلة في العمل المدنى والسِّلمى لإسقاط النِّظام” (سودانايل؛ 28 يناير 2013م). وكفى بذلك فلاحاً لخطة اجتذاب العناصر المقاتلة إلى ساحة الصِّراع السِّياسي “السِّلمي”، بالحوار، لا بالجَّبر وفرض الخيارات!

ثانياً: حدَّد نصُّ “الفجر”، إلى ذلك، طول الفترة الانتقاليَّة بأربع سنوات، وحدَّد أهمَّ مهامِّها في عقد المؤتمر الدُّستوري، وإقامة انتخابات حرَّة ونزيهة؛ كما حدَّد شكل النِّظام الفيدرالي في أربعة مستويات: اتِّحادي، وإقليمي، وولائي، ومحلي؛ وأشار إلى الفصل “بين مؤسَّسات الدِّين ومؤسَّسات الدَّولة”، وهو تعبير بائن الرَّكاكة، المقصود منه، على الأرجح، وإلى حين انعقاد المؤتمر الدُّستوري، حظر تأسيس الأحزاب السِّياسيَّة على أسس دينيَّة، قياساً على ميثاق أسمرا للقضايا المصيريَّة (يونيو 1995م)؛ وما إلى ذلك مِمَّا يمكن اعتباره، إجمالاً، حزمة توافقات “فوق دستوريَّة” ليس نادراً ما جرى تداولها، أصابت أم أخطأت، حيث ظلت أصداؤها تتردَّد، طوال السَّنوات الماضية، في الليالي السِّياسيَّة، والنَّدوات الجَّماهيريَّة، والمنشورات الحزبيَّة، والمذكِّرات المدنيَّة، والمقالات الصَّحفيَّة، والوقفات الاحتجاجيَّة، والمسيرات السِّلميَّة، والاجتماعات الدَّاخليَّة، والمخاطبات العموميَّة، والمواقع الأسافيريَّة، والرَّسائل الإلكترونيَّة والهاتفيَّة، وما إلى ذلك، حتَّى لتكاد خطط ومشاريع الإجماع الوطني تكون كتاباً مفتوحاً لكلِّ من أراد تصفُّحه.

(2)

وإذن، ما الذي فاجأ النِّظام، فأهاجه، وأقام قيامته على الإجماع الوطني، من ناحية، وأفزع المعارضة، من ناحية أخرى، ودفعها للتَّنصُّل عن تبعات “الفجر”، إلى حدِّ رمي وفده بتجاوز تفويضه، وفيه سياسيون متمرِّسون لا يمكن أن يخطئوا في ما لا يُتوقع أن يخطئ فيه سياسي مستجد؟! ما الذي استكثر النِّظام على المعارضة، في الميثاق، وما أخاف المعارضة من النِّظام؟! أهو حديثها عن “إسقاطه”، وهو حديث قديم لطالما ردَّدته حتى أضحى من حقائق الصِّراع السِّياسي في بلادنا؟! أم هو لقاؤها بحملة السِّلاح، في كمبالا، بينما النِّظام ما ينفكُّ يتبضَّع بلقاءاته معهم، ما بين نيروبي، ومشاكوس، ونيفاشا، وأديس أبابا، وانجمينا، وأبوجا، وطرابلس، وبنغازي، والقاهرة، والدَّوحة، وربما جزر واق الواق نفسها، ما عدا .. السُّودان؟! أهو توصُّلها إلى ترتيب “شكل تنظيمي” بهذا الوسع، وهي التي لطالما عبَّرت، علناً، عن أملها في ذلك، بل وسعت إليه، تحت بصره وسمعه، فما احتاجت للتَّخفي، أو لممارسة أيِّ نوع من العمل السِّرِّي، ويقيننا أنها لو كانت أرادت لفعلت؟! أم هو نجاحها في صياغة “مضمون برامجي” يمكن تطويره، لتلتقي عليه شتَّى مفردات المعارضة لفترة ما بعد التغيير، مِمَّا ظلَّ محلَّ تشاورها، علناً أيضاً، ولزمن طويل؟!

(3)

ليس ثمَّة، في ما ذكرنا، ما يبرِّر الاعتقاد بأن الميثاق جاء خلواً من السَّوالب والمعايب. فلقد عرض، في بعض جوانبه، لمسائل ما تزال خلافيَّة تحتاج إلى المزيد من التَّشاور، فضلاً عن استغراقه، أحياناً، في تطويلات وتفصيلات لم يكن من المناسب ورودها فيه، حيث ما يزال منتظراً، حسب الميثاق نفسه، طرحها وحسمها من خلال المؤتمر الدُّستوري، كالقوَّات النِّظاميَّة، والأجهزة الأمنيَّة، والوحدة الطوعيَّة، وإدارة الدَّولة، ومعالجة هيكلها، ونظام وبنية الحكم، والمشاركة في السُّلطة، وإنشاء أقاليم جديدة، وعلاقة الدِّين بالدَّولة، وما إلى ذلك، بحيث لم يكن سائغاً الإسهاب فيها من خلال الوثيقة.
مع ذلك ليست هذه، بأيَّة حال، هي المرَّة الأولى التي تطلق فيها مثل هذه التَّعبيرات البرامجيَّة من جانب أطراف في المعارضة، داخل أو خارج البلاد، بما في ذلك حديث “الدِّين والدَّولة” الذي تركزت عليه هجمة النِّظام، وشكَّل بؤرة صراع، في بعض الأحايين، حتى داخل هذا النِّظام نفسه (أنظر كتابنا “عتود الدَّولة”، دار مدارك 2010م، ص 107 ـ 134)، أو الاتِّصال والحوار مع المعارضة المسلحة، من باب الرَّغبة الوطنيَّة في اجتذابها إلى مناهج النَّشاط السِّلمي، وعدم تركها نهباً للانعزاليَّة السِّياسيَّة، أو الإيغال، لأزمنة متطاولة، في حرب أهليَّة ضروس لا تنمِّي، في نهاية المطاف، سوى النَّزعات الانفصاليَّة.

نعم، ليست هذه هي المرَّة الأولى التي تقع فيها مثل هذه التَّعبيرات البرامجيَّة، في إطار النَّشاط السِّياسي اليومي المعتاد؛ غير أنها، بالقطع، المرَّة الأولى التي يضطرُّ فيها النِّظام لمجابهة مثل هذه التَّعبيرات، واتخاذ موقف بشأنها!

(4)

يعود السَّبب في ذلك، برأينا، إلى كون النِّظام قد فوجئ، خلال الفترة الماضية، بتكاثر الاحتجاجات ضدَّه من داخل صفِّه ذاته، وبمذكِّرات التَّململ “الألفيَّة” من شبابه الإصلاحيين تطالبه، من بطن بيته، بضرورة مجابهة الفساد، وتغيير القيادات، بل فوجئ، أكثر من ذلك، وتحديداً في عقابيل مؤتمر حركته الإسلامية، في نوفمبر الماضي، بأن ثمَّة تحرُّكاً عسكرياً يستهدفه من خندقه نفسه، وأن ثمَّة من يدبِّر، من داخل حصونه، للانقلاب المسلح عليه!

إن ذلك لمِمَّا يصلح، يقيناً، أكثر من غيره، في تفسير غضبة السُّلطة المضريَّة على من وقَّعوا وثيقة “الفجر”، لا لأنَّ هذا التوقيع يمثِّل يوم قيامة سياسي تطوى فيه الصَّحائف، وتنجرد الحسابات (!) بل لأن الحدث نفسه تزامن مع تفكُّك غير مسبوق في صفوف النِّظام، فقذف الرُّعب في قلبه، ولم يعد يحفل حتى باتِّساق ثائرته مع أبسط مقتضيات المنطق! في السِّياق هدَّد السَّيِّد رئيس الجُّمهوريَّة، مثلاً، وهو يومئ لقوى الإجماع الوطني، بأن الدَّولة لن تسمح بتداول السُّلطة “لمن يمارس عملاً سياسيَّاً وهو يدعو للعنف واستخدام السِّلاح” (سونا؛ 10 يناير 2013م)؛ ومضى نائبه إلى الإعلان عن “حظر” الأحزاب الموقعة مع الحركات المسلحة، و”عدم السماح” لها بممارسة نشاطها، حتى وسط الطلاب، إلا بعد أن “تتبرَّأ” من الميثاق (القرار؛ 15 يناير 2013م). فإذا غضضنا الطرف عن محاولة الاستقواء الحزبي بالسُّلطة، في هذا الشرط، لكسر المعارضين، وتركيعهم، وإذلالهم، فلا بُدَّ من التنويه بالمغالطة الواضحة في الوقائع نفسها، إذ يعلم القاصي والدَّاني أن سياسة الإجماع الوطني الثَّابتة، تجاه أهل الجَّبهة الثَّوريَّة، إنَّما تقوم، لا على “دعوتهم للعنف واستخدام السِّلاح”، فهم غير محتاجين، أصلاً، لمن “يدعوهم” لهذا الأمر، حيث “اليتيم لا يحتاج لمن يوصيه بالبكاء”، كما في بعض أمثال المستعربين السودانيين، بل تقوم هذه السِّياسة، بعكس ذلك تماماً، على السَّعي لإقناعهم بأنَّ ثمَّة جدوى، في نهاية النَّفق، من النِّضال السِّياسي السِّلمي لإحداث التغيير. أما نافع علي نافع، مساعد رئيس الجُّمهوريَّة، فقد ردَّ علي الميثاق، كعادته، بخطاب تحريضي أمام حفل لقوَّات الدِّفاع الشَّعبي، معلناً العام الحالي عاماً لدعم “المجاهدين”، وحسم “المتمرِّدين”، وفضح “العملاء” (سونا؛ 8 يناير 2013م)؛ مضيفاً، في وقت لاحق، وجرياً على نهج إطلاقاته المعروفة، اتهامه للميثاق بأنه أبرم “برعاية وتمويل مباشرين” من السفارة الأمريكيَّة والاتِّحاد الأوربي (!) كما حمَّل الحزب الشِّيوعي مسئوليَّة “إخراجه” (!) واتَّهم حزب الأمَّة “بالتَّذبذب” (!) ووصف المعارضة كلها بأنها “مخلب قط للمتآمرين على السُّودان!” (القرار؛ 15 يناير 2013م)؛ وأما والي الخرطوم فقد ذهب إلى تحريض أئمَّة المساجد على الوثيقة باعتبارها تهدف إلى “طمس الهويَّة، وفرض الفجور، والمجاهرة بالمعصية!”، أو كما قال (شبكة الشروق + وكالات؛ 12 يناير 2013م).

لكن اللافت، بوجه خاص، رغم كلِّ هذه التَّصريحات النَّاريَّة، والاتِّهامات الجزافيَّة، أن صفَّ السُّلطة نفسها ما يزال منقسماً، مرتبكاً، يتحدَّث بأكثر من لسان. فعلى سبيل المثال، ها هو د. أمين حسن عمر، القيادي في الحزب الحاكم، يردُّ على مدير الإدارة الأفريقيَّة بالاتِّحاد الأوربي، عندما استفسر عن حقيقة حديث د. نافع حول “تمويل” الاتِّحاد الأوربي و”رعايته” لوثيقة “الفجر”، قائلاً إنَّهم أوضحوا له “عدم قولهم إن الاتِّحاد دفع أموالاً، بل ذكروا فقط حديث الموقِّعين على الوثيقة بأن ثمَّة جهة اشترطت عليهم التوحًّد!” (الأيَّام؛ 16 يناير 2013م)؛ فبالله عليكم هل هذا كلام؟!!

خلاصة الأمر أننا لا نجد لهذا التَّوتُّر والتَّناقض البائنين في موقف السُّلطة من ميثاق “الفجر” تفسيراً معقولاً أو مقبولاً، كما قلنا، سوى أن انقساماتها الداخليَّة، في أخطر مفاصلها القياديَّة، قد أرعبتها، وعصفت بتماسكها، فألجأتها، في بعض مسعاها لدفع هذه المخاطر عنها، مع قلة حيلتها، إلى “ترك الحمار والإمساك بالبردعة”، كما في بعض الأمثال المصريَّة، أي إلى جعل المعارضة “حائطاً قصيراً”، كما في مثل آخر من أمثال مستعربي بلادنا، بتخويفها، وحملها حملاً على اتخاذ موقف متهافت تثبت به عدم انتهاجها استراتيجيَّة العنف المسلح، بأن تدين، بل وتعادي الجَّبهة الثوريَّة؛ بعبارة أخرى أن تخوض حرباً، بالوكالة عن السُّلطة، ضدَّ هذه الجَّبهة .. وهذا، بطبيعة الحال، ما لا يكون، وما لا يمكن فهمه، أو هضمه، ضمن أيَّة نظريَّة في العلوم السِّياسيَّة، أو أيِّ منطق للصِّراع السِّياسي العملي!

***
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. للناس المستعجلين و ما عندهم صبر على (جنس) مقالات التحليل و مخرجات المنطق هذا إختصار لما أراد الأستاذ كمال الجزولي أن يقوله لنا ..
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    السؤال :

    وإذن، ما الذي فاجأ النظام، فأهاج قيامته على المعارضة، من ناحية، وأفزع المعارضة، من ناحية أخرى، ودفعها للتنصُّل عن تبعات “الفجر”، إلى حد رمي وفدها بتجاوز تفويضه، وفيه سياسيون متمرسون لا يُتوقع أن يخطئوا في ما لا يُتوقع أن يخطئ فيه سياسي مبتدئ؟! ما الذي استكثر النظام على المعارضة، في الميثاق، وأخاف المعارضة من النظام؟! أهو حديثها عن “إسقاطه”، وهو قديم لطالما رددته حتى أضحى من حقائق الصراع السياسي في بلادنا؟! أم هو لقاؤها، في كمبالا، بحملة السلاح، بينما النظام ما ينفك يتبضع بلقاءاته معهم، ما بين نيروبي، ومشاكوس، ونيفاشا، وأديس أبابا، وإنجمينا، وأبوجا، وطرابلس، وبنغازي، والقاهرة، والدوحة، وجزر واق الواق نفسها؟! أهو توصلها إلى ترتيب “شكل تنظيمي” بهذا الوسع، وهي التي لطالما سعت لذلك، تحت بصره وسمعه، فما احتاجت للتخفي، أو العمل السري؟! أم هو نجاحها في صياغة “مضمون برامجي” يمكن تطويره، لتلتقي عليه شتى مفردات المعارضة لفترة ما بعد التغيير؟!

    الإجابة :

    السبب، برأينا، يعود إلى كون النظام قد فوجئ، خلال الفترة الماضية، ليس، فقط، بتكاثر المواقف المعارضة له من داخل صفه ذاته، وبمذكرات التململ الألفية من شبابه الإصلاحيين تطالبه، من بطن بيته، بمجابهة الفساد، وتغيير القيادات، بل فوجئ، أكثر من ذلك، وتحديداً في عقابيل مؤتمر حركته الإسلامية السادس، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بأن ثمة حراكاً عسكرياً يستهدفه من خندقه نفسه، وأن ثمة من يدبِّر، من داخل حصونه، للانقلاب المسلح عليه!..
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    شكرا للأستاذ / كمال الجزولي على المقال (الكبير) و يبقي الكبير (كبير) دائما ..

  2. ونحن من جانبنا نقول بأن الإجابة تكمن في أن النظام المتهالك قد جرب كروت كثيرة وجميعها فشلت فشلاً زريعاً في تحقيق مآرب النظام ، وأنه كان في مخيلته بأنه ممسك بالكرت الآخير ألا وهو كرت العنصرية وذلك بأن يوصف الجبهة الثورية بأنها منظمة عنصرية تهدف إلى استئصال ذوي الأصول العربية من السودان والدليل على ذلك ما ذكره المنافق المانافع في أبوقوتة في الأسبوع المنصرم بأن هناك مخطط يستهدف العرب في السودان وتكرار مأساة الأندلس وما إلى ذلك من تخيلات وهلوسات موجودة فقط في خيال المرضى والمعتوهين مثله، وكان النظام قبل هذه الوثيقة يراهن على تجييش الشعب السوداني لقتال التتار نيابةً عنه لكي يبقى هو في سدة الحكم إلى الأبد، وبعد وثيقة كمبالا جن جنون النظام لأنه أدرك بأن كرته الأخير سيحترق وبالتالي فإنه لا محالة هالك لأن الشعب السوداني وعى الدروس في هذه المرة وإتحد أ، أو بالأحرى أنه سيتحد وفقاً لهذه الوثيقة في صفٍ واحد ضده، لذلك جن جنونه وبدأ يهرطق ويستنفر ووو ، لكن إنشاء الله الشعب السوداني سيفوت لهم هذه الفرصة الأخيرة ويتحد من شماله إلى أقصى الجنوب الجديد (جنوب كردفان/جبال النوبة) ومن الشرق مروراً بجنوب النيل الأزرق والجزيرة حتى غرب السودان حيث الحركات الدارفورية ، هذا هو الحل الوحيد لكي نضمن العيش سوياً في سلام ووئام بدون مؤتمر وطني وأوهامه وتخيلاته المريضة ……….

  3. فعلا سابوا الحمار واتشطروا على البردعة
    و بالسوداني عينك في الفيل و تطعن في ضله

    مقال كامل الدسم

  4. رغم كل شيءلا الحكومه ولا المعارضه عندها سبب للفزع لأنه “ليس فى الأمر عجب .. انه ما قد وجب”.. المؤسف الاحزاب المعارضه (ان كانت هى فعلا معارضه) والفصائل ألأخرى المعارضه كوووولها القاطع قلبها شنو؟؟ كل فصيل فصّل ليه اسباب لتنصله عن الوثيقه .. يعنى المشو ووقعوا ديل تنزل عليهم الوحى ولا الملائكه للذهاب الى كمبالا ولا شافو الموضوع فى المنام؟ هل التنصل هو عدم ثقه فى النفس ام عدم ثقه فى ألآخرين.. هل هو خوف من الصومله وانفلات الأمن اذا حمى الكوع .. عموما السودانيون عايزين “اسناد استراتيجى يشكل حضور واسع متنوع المرتكزات” فهم تنقصهم الحماسه للعمل الجماعى (بفتح حرف الجيم) .. كووولللو المهام عندهم فرض كفايه اذا قام بها البعض سقطت عن الباقين وينتظرون ” قوافل الدعم والمسانده عند التصدى لأمهات القضايا الا اذا كانت تعبر عن المصالح الذاتيه الآنيه. تكامل الأدوار لتامين الأحتياجات ليس اولويه قصوى .. ألأمام قال ما معناه “المحتاج اليمشى “الشونه يكيل” ..ولسان حالو: .. “اذهبوا وقاتلوا انّا هاهنا قاعدون .. فانها اينما تمطر سياتينى خراجها” ما تقول لى “اكتوبر وابريل” فى الحالين فصائل القوات المسلحه هى اللى حسمت المواقف .

  5. دق القراف خلى الجمل يخاف هذا ما ذهب اليه النظام الفاشل فهو منذ بدايته السوداء ولد ببذرة الفشل فى داخله والآن نبتت تلك البذرة وعليه قطف ثمارها ويالها من ثمار كدرا وضنكا ورعبا وطينا ففشلهم يحاصرهم من الداخل قبل المعارضة ومن الخارج قبل الاعداء فاين يذهبون ؟

  6. شوفو الزول ده بجعر كيف..؟؟!.. من زمن الزبير حي… غايتو الله يستر ويكضب الشينه، لكين مصيرو حا يقطع (صوت)واحتمال صوت وصورة و(الموية)…. طبعا معروف قاطعة من زمان..؟؟!!

  7. هذا يا استاذ فيما يخص الحكومه .. فارجو في المقال قادم ان توضح لنا وجهة نظركم في ( فرنبة ) اطراف المعارضه من الميثاق و رايك في ذلك .. بما فيها حزبكم و الذي وقع نيابة عنه القيادي البارز الاستاذ صديق يوسف .. لياتي سكرتير الحزب ليتنصل عن توقيع يوسف …………. و هذه علي حد علمي لاول مره تحدث في الحزب الشيوعي و الذي يعتبر من اقوي الاحزاب في جانب التنظيم الداخلي و لا يمكن ابدا ان يتحدث بلسانين او برايين مخالفين خصوصا في مساله هامه كهذه ….. مع الشكر

  8. يا اخ كمال الجزولى انا عايز اركز على نقطة واحدة وهى:
    ان هذا النظام واعنى به نظام الانقاذ او الحركة الاسلاموية والله ثم والله الذى لا اله غيره والله على ما اقول شهيد هو اضعف نظام مر على السودان من ناحية النخوة الوطنية والغيرة على الوطن وما شفنا ليه شدايد او رجالة الا قدام مواطنيه وما يتعلل بضعف تسليحه وقوته امام الاجانب عبدالله خليل وغيره من الحكومات الوطنية(نظام الانقاذ غير وطنى) اصلا ما خافوا او اترددوا امام مصريين او حبش او غيرهم فى شان يخص ارض الوطن عكس الانقاذ اصلا ما بيترددوا امام اى شىء يخص سلطتهم او نظامهم لكن امر الوطن واراضيه وسمائه ومياهه فهم ما بيشتغلوا بيها شغلة وهمهم كله على حكمهم فقط لان جبهتهم الداخلية مكشوفة لانهم غير مرغوب فيهم داخليا والمصيبة ان اعداء السودان وجدوا فيهم ضالتهم للتقسيم والتمزيق والتدخل فى الشان الداخلى!!!!
    والمضحك المبكى انهم يتهموا المعارضة بالخيانة!!! يعنى رمتنى بدائها وانسلت!!!!

  9. وثيقة او بيان الفجر الجديد مجرد تحصيل حاصل ونتيجة حتمية لبطء الفهم والاستيعاب عند احزاب المعارضة انو المقاومة المدنية براها بتطول عمر النظام وتديهو فرصة يستحكم ويتغلغل اكتر في الدولة والمجتمع ويلوث حتى الهوا والافكار قال مليونية لزيارة قبر الحوت انتو جادين يعني ما شايفين نتايج المشروع الخضاري انو العقول بقت بصل ؟؟ النظام ما بستجيب للقوة الناعمة لانو ما عندنا قوة ناعمة لكنو بستجيب للقوة الخشنة بطريقة جميلة جدا

  10. استاذ كمال ليس المهم ردفعل النظام الحاكم على الرغم من غرابته كما ذكرت حيث انه لا يتناسب ابداً مع الفعل ، وإذا قسمنا الاطراف الى ثلاثة كيمان – النظام ، المعارضة والمعارضة المسلحة – فسنقول ، اما النظام فقد اجبت على سبب زعره فى متن مقالك هذا، وعلى كلٍ رأيه لا يهمنا كثيراً ، المقاومة المسلحة لن الومها على ركاكة الصياغة او ضعف بعض النواحى فى الوثيقة لقلة خبرتهم السياسية (على الرغم من انه كان يمكن الاستعانة باحد المحترفين القانونيين -وهم كثر- يجيد هذا الامر)، اما الطرف الأهم هو احزاب ما يسمى بالاجماع الوطنى (النخب السياسيه) ، وهذا لأنهم – حسب رأيى – السبب الحقيقى لكل الأزمات التى مرت وتمر بها البلاد منذ إستقلالها ، وهنا أتذكر كيف انهم اضاعو وقتاً ثميناً فى توافه وخلافات فى منتصف التسعينات فيما يعرف بالتجمع الوطنى الديموقراطى الذى كان يمكن ان يعالج الكثير من المشاكل إذا فكرت هذه النخب ونظرت للوطن والمواطن قبل مطامعها وطموحاتها الشخصيه (حتى لا ننتهى من سلم تسلم الى التسليم ومشاركة المجرمين)، ولا اعتقد ان منظومة قوى الاجماع الوطنى افضل من رصيفتها السابقة التجمع الوطنى.

    إذن هنا اجدنى اضم صوتى الى صوت المعلق (Zahi) ونريد منك مقالاً تحليلياً فيما يتعلق بمواقف احزاب قوى الاجماع الوطنى (بما فيها حزبكم) المتناقضة ما بين إرسال الوفود الممثلة لهم ثم التنصل (بعد زمجرة المؤتمر الوطنى) عن ما تم التوصل إليه ، واعتقد انك افضل من يمارس النقد والنقد الذاتى حسب ما قرأناه لك من كتب ومقالات.

  11. فزع النظام وهرشته البائنه لثلاث :
    – توحّد المعارضه لاول مره ، ناس الخرطوم مع ما كانوا يتهمونهم بالعنصريين وناس الهامش .
    – الجديه الواضحه و الوثيقه كانت حاسمه وعينها (حمرا) شديد
    – السلاح .. وده (الخرا) العديل ، لانو جعجعه (سلميه) و(حوار) بتاعه الصادق ديك والكلام الفارغ بتاع كمال عمر داك ، كانوا عارفين بيتعاملوا معاها كيف .

  12. لا حل لمشاكل هذا البلد المنكوب الاّ بالتخلّص من الكواريك و التهديدات وبذئ القول والتلويح بالايدي والعصي امام الميكرفونات وحشد الحشود
    وبغياب هؤلاء الجنرالات الموتورين وهذه النياشين عن المشهد العام الي ثكناتهم .
    إن هذا الخطاب وهذه الوجوه وهذه (الفنجطات) باتت من التاريخ ، إن هذه التجارب الفاشله والمنحطه و(العويره) ما اتت عبر التاريخ الاّ بالنكسات
    و التخلّف وما جرّت لبلادها سوى الحروب والموت والجوع و المسغبه ، والامثله واضحة وبائنه و ليست بحاجة لتوضيح لذي بصيرة وبصر .
    هاهي كوريا الشماليه التي ملأ قادتها بلادهم بمختلف الاسلحه الفتاكة ، يجتاحها الجوع والتخلّف والإنحطاط ، وفي الجانب الآخر انظر لكوريا الجنوبيه
    ويكفي هذه الدولة الديمقراطيه المتحضرة (سامسونج) التي ناطحت العملاق (أبل) الامريكية .
    والامثلة كثيرة من اليابان الي ماليزيا والهند وغيرها ، مقارنه بباكستانو سوريا وزيمبابوي وسودان المؤتمر (الوطني) السجمان .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..