مفهوم الحل الشامل عند حزب البعث

إن مفهوم الثورة، كما يعتقد قادة التغيير، و الفلاسفة السياسيين و الإجتماعيين، أنه يتضمن تغيير أكبر و أشمل من مجرد التغير الشكلي في بنية السلطة، فليس من الضروري أن يتضمن مفهوم الثورة، المواجهة المسلحة مع النظام الديكتاتوري، كوسيلة لإنجاز الثورة ، بقدر اهمية ان يكتسب الحراك صفته الشعبية الشاملة، و من المهم للغاية أن تتضمن تحول كبير في نمط حياة المواطنين، من زاوية حرياتهم و طريقة حكمهم، و إحترام كرامتهم، و توفير الشروط الكافية لرفاهيتهم. لذا فإن التغيير الشكلي لنموذج الحكم، بإستعارة أنظمة الحكم الليبرالية و إعادة تطبيقها في البيئة السودانية، لن يفلح نهائياً ،بصورته المجردة تلك، في تحرير الشعب من سيطرة القوى الطفيلية الرأسمالية المتحكمة في حياة المواطنين في الريف و الحضر، و لن تسهم بأي صورة من الصور في إشراك الطبقات الكادحة (في بيوت الخيش و معسكرات اللجوء و النزوح، و في الحقول و المزارع، و المراعي و العمال) في نظام الحكم، كما لن يسهم مثل ذلك التغيير، بالضرورة، في تحرير تلك القطاعات التقليدية من النفوذ الطائفي الرجعي.
*
لقد حرصت كل الحكومات الديمقراطية، و العسكرية في السودان، في أوقات سابقة، على إشراك ممثلين عن جنوب السودان في الحكم، و شهدت كل البرلمانات وجود ممثلين لقوى الريف، و ممثلين للمناطق الاقل نموا في السودان، و لكنهم كانوا في نهاية المطاف، بوعي أو بدون وعي جزء من الآلة الطفيلية الرأسمالية الحاكمة في البلاد، التي تستغل جماهير تلك المناطق لصالح البرامج و السياسات التي تعمد على إفقار تلك الجماهير بسلب مدخراتها، و مواردها، و طاقاتها. لذا فان واقع المشاركة في تلك المؤسسات، في محصلتها النهائية، لا تتجاوز واقع كونها تدعم في الديكتاتورية، أياً كانت صورتها، و مناصرة للقوى الطفيلية و الرجعية، ضد جماهير الشعب.
*
و بالتالي، ووفق الحالة السودانية الراهنة، لابد من تحسس هموم الشعب، بصورة شمولية، و ليس بصورة قطاعية ( عمال -* مزارعين ? مهنيين) و ليست بصورة طائفية دينية، أو إثنية أو إقليمية. فهموم بعض المجموعات، قد تكتسب أهمية و إلحاح و أولوية، ضمن أجندة التغيير الوطني الشامل. و أي دعوة لتجزئة النضال إستناداً على ذلك التقسيم الزائف، و عدم إستيعاب شموليتة النضال، سيسهم في تمكين الديكتاتورية، لأن المنهج التقسيمي و التفتيتي، كان على الدوام منهج الديكتاتورية و ليس منهج الثورة الشعبية، و ما تجربة (المناطق المقفولة) و سياسات (فرق تسد) إبان الاستعمار البريطاني ببعيدة عن الأذهان.
*
و بالتجربة السودانية، كانت قيادات النضال تحت تلك اللافتات، تقود مطالبها الموضوعية و العادلة لتلك الفئات، مع حرص واضح على تمييز مطالبهم عن المطالب القومية للشعب السوداني، بالقدر الذي قد يسهم ? مع طول المدة – بصورة تراتبية في عزل تلك الفئة عن الهموم القومية. و على الرغم من تجربة الحركة الشعبية بقيادة الزعيم جون قرنق، قد اعتمدت ضمن مطالبها، مطالب قومية خاصة بوحدة السودان، إلا إنها بقدر ما ، كان نضالها قائماً على مطالب إقليمية، بقدرما أسهم في خلق ثقافة إنعزالية، و تفتيت لأجندة النضال الوطني، و بالتالي يمكن القول بأن شعارات القائد جون قرنق السياسية لم تكن سوى تصريحات سياسية معزولة عن التوجه العام لحركته، ألا وهو النضال بإتجاه الإنفصال النهائي.
*
ماذا يعيب الدعوة لقيادة نضال إقليمي / إثني/ ديني .. الخ ؟ من الواضح أن هذا الإتجاه يعبر بصورة صارخة، عن عجز قيادات هذا الإتجاه عن إيجاد بدائل وطنية تستوعب قضية تلك الفئات ، و بالتالي يمكن القول بأن هذا النوع من التعبئة النضالية، لا يجتهد باتجاه خلق ثورة في المجتمعات ، و إنما يسعى إلى تبنى الأطر الجاهزة، و التي قد تفضي إلى حلول آنية، و لكن لا يحل جذر المشكل. و جذر المشكل قد يتمثل في إستغلال القوى الرجعية و الطفيلية و الانتهازية لعناصر التباين ( أيا كان شكله و نوعه) لتدعيم وجودهم السلطوي، او إستغلال الواقع الرجعي و المتخلف لصالح برنامجهم الطفيلي، و هذا إتجاه واضح في تجربة حكم جماعة الإسلام السياسي للسودان طيلة ما يفوق ربع قرن من الزمان، و هو نفسه ما تؤكده تجربة توظيف الواقع المتخلف للحصول على السلطة، و الذي مارسته الحركة الشعبية لتحرير السودان لضمان الحصول على السلطة بعيداً عن أي منافسة. و بالتالي فإن شمولية الحل، يستلزم شمولية النضال، إستناداً على أن هذا الواقع المتخلف ليس حصراً على اقليات دون بقية السكان، او إقليم دون أجزاء الوطن، أو أي مجموعة سكانية متميزة، بل هو واقع الحال في كل أرجاء السودان، الذي تقوم القوى العسكرية الديكتاتورية و القوى الداعمة لها من رأسمالية طفيلية و قوى سياسية رجعية، طائفية و دينية، بإستغلاله و توظيفه لمصالح غير ما هو معلن بواسطة الشعب، و هذا الإستغلال ظل على مدار تاريخ سودان ما بعد الإستقلال، أحد أبرز سمات الأزمة السودانية.
و بالتالي إن إعتماد تفتيت النضال على ذلك الأساس، يخلق واقع من التضارب غير المبرر بين فئات جماهير الشعب السوداني، و يدعم خط النظام العنصري التفتيتي الاإقصائي، بأن يتحول كل الشعب و مؤسساته ( بما فيها الأحزاب السياسية) إلى مجموعات و كنتونات إقصائية.
*
هذا الواقع، قد أسهم بصورة من الصور، في خلق بيئة سياسية و إجتماعية و ثقافية، تكرس لثقافة عدم قبول الآخر، و رفض التمازج الوطني.
و هذا الواقع مثلما كرسته السياسات الديكتاتورية للنظام القمعي، ساهمت فيه أيضاً طرائق و أساليب العمل السياسي المعارض المتبعة لدى بعض القوى السياسية و العسكرية. و إن كان هناك تنامي لدعوات عنصرية و إقصائية، بين المجموعات الاجتماعية، تكون تلك السياسات و الأساليب المتبعة داخل قوى الحكومة و المعارضة سبب من أسبابها.
إن مبدأ (شمول النضال) يبدو في حقيقته أوسع من أن تحيط به هذه الدراسة، و لكن بالنظر اليه من زاويته الشعبية، يمكن بسهولة إعطاء مؤشرات واضحة حول مصلحة الجماهير الشعبية، و بما يحقق أهداف الثورة. هذا الشمول، لا يتفق بالضرورة مع مصالح الطبقات المتحكمة تاريخياً في مصالح الشعب ، اذ تقف بالنتيجة كأحد المصدات و الكوابح ضد توجهات مبدأ الشمول في الثورة، و ذلك لأن رفاهية المجتمع و المساواة و العدالة و الديمقراطية، كمبادئ محركة للثورة، تعمل بالضرورة على إنهاء حالة الاستغلال و التمييز و الفقر و التسلط، و هي أهداف في غاياتها النهائية، تستدعي تغيير المفاهيم و النظم السائدة.
*
و لا يتعارض شعار (الحل الشامل) مع إيلاء مشاكل بناء السلام أهمية خاصة، و في هذا الصعيد، يجب أن تحتل المطالب الإقليمية و المتميزة في السودان، جانباً مهماً في أجندة النضال من أجل الوحدة الوطنية، بمخاطبة الهموم العاجلة و الأكثر أهمية لجماهير تلك المناطق، و إبراز خصوصية تلك المناطق، حين يتم النضال من أجل الحقوق الأساسية والتوزيع العادل للثروة والسلطة واحترام التنوع في تركيبة الشعب السوداني، وهذه حركة محتواها، العدالة و المساواة و الديمقراطية.
*
لذا حين يتصدى حزب البعث العربي الاشتراكي، ضد تجزئة الحلول و ضد محاولات تفتيت مؤسسات النضال الشعبي، و حين ينادي بإعتماد (الحل الشامل)، تنهض القوى الرجعية و المستفيدة من الواقع الراهن، بمواجهة البعث و التصدى له بكل الوسائل، بغرض إبقاء الحال على ما هو عليه.
*
خاتمة القول …
إن العمل على وحدة النضال الوطني، هي أحد أهم دواعي النضال الثوري التقدمي، و قضية الوحدة الوطنية، ليس نظام سياسي و طريقة حكم، بل هي مرتبطة بشكل حاسم بمفهوم للـ (الوطنية السودانية)، و مفهوم الوطنية السودانية لا يمكن أن يتأسس على مفاهيم ديكتاتورية ? إقصائية ? عنصرية ، لانه سيكون مفهوم تفتيتي، لذا يجب أن يكون المفهوم ديمقراطياً، بالمعني الشامل للديمقراطية (الديمقراطية السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية)، و يتأسس *على أساس المساواة في الحقوق والواجبات، و يكون فيه للجميع الحق في ممارسة تلك الحقوق والإلتزام بأعباء تلك الواجبات.
و على حزبنا و جماهيره، أن لا تنصرف عن التفكير الثوري، بالإنجرار خلف التحالفات السياسية و التكتيك مع القوى الرجعية، بهدف تحقيق تفكيك الديكتاتورية السياسية القائمة، و إلا سيجد نفسه، في مرحلةٍ ما، يناضل بالضد من أهداف الجماهير و غاياتها.
[email][email protected][/email]