
حين كتب الراحل د منصور خالد وهو المثقف الذي لايزايد على وعيه الثقافي أحد رغم الاختلاف معه في بعض رؤاه كتابه النخبة السودانية وادمان الفشل كان يشير إلى النخبة السودانية المثقفة والسياسية وإلى دورهم في تدهور السودان في كل مراحله ، من منظور يجمع بين السياسة وعلم الاجتماع و التأريخ.. فمن الناحية الإجتماعية ذكر كيف ان السودان يعاني من أزمة رؤية قبل أن تكون أزمة حكم وأن هذه الأزمة الفكرية أدت إلى تصدع الذات بما وصفه “النفاق الفكري لهذه النخبة في القضايا التي تمس الوجدان العام مثل: قضية الدين ، والانتهازية الفكرية التي تشوب المواقف السياسية في بعض القضايا المبدئية”.
وبالنظر إلى الحالة السودانية نجد أن هناك بعض المثقفين الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على المواطنين لا قادة لثورة التغيير والوعي يصنفون على هواهم باقلام التصحيح الحمراء من هم مثقفون ومن هم طائفيون وتقليديون من أبراج عاجية بعيدة عن هموم المجتمع وحاجاته الأساسية وينكرون على غيرهم أن يكونوا مؤثرين في مجتمعهم وقادة للتغيير والفكر بل لايمنحونهم لقب مفكر رغم أن التعريف البديهي والفلسفي للانسان أنه كائن مفكر .
ويصنف الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي المثقفين إلى نوعين الأول وهو المثقف العضوي الذي يهتم بقضايا المجتمع وقضايا شعبه والذي يتصدى للنظم القمعية بالمواقف الفكرية والسياسية التي تقوده إلى المعتقلات والذي يكون مرتبطا بالجماهير التي تمنحه الثقة والولاء وهو يقود مواكب التغيير وهؤلاء في مجتمعنا السوداني معلومون بمواقفهم ومبادراتهم وسنوات عمرهم التي قضوها في السجون .
اما الصنف الثاني فهو المثقف النرجسي التقليدي الذي يجلس في برجه العاجي بعيدا عن هموم مجتمعه ويعتقد بأنه فوق الجميع يملك بيده صكوك الوطنية والثورة يمنح لقب طائفي لمن يشاء وحداثي لمن يهوى وهو حسب تعريف غرامشي أسوأ مثقف تقليدي
هذه النخبة من المثقفين التقليديين الفاشلين هم من وصفهم منصور خالد في كتابه النخبة السودانية وإدمان الفشل رغم أن هناك من يأخذ على د منصور خالد نفسه ومحمود محمد طه والترابي دعمهم لسلطة ديكتاتورية وتزيين لباطلها ابان حقبة نميري قبل أن يصحح د منصور مساره من خلال كتابه المشار إليه وقد حفل السودان خلال حقب الحكم العسكري والشمولي بهذه الطبقة من المثقفين التقليديين الفاشلين سواء نظام عبود أو شمولية نميري بشقيها اليميني واليساري وأعوانهم من الجمهوريين أو شمولية الإنقاذ التي قدمت أسوأ تجربة سياسية في السودان.
والمثقفين السودانيين كحالة خاصة ينقسمون إلى قسمين قسم يعبر عنه التيار الوطني في قوى الوسط وهم الذين لهم دور بارز في قيادة التغيير الاجتماعي والسياسي ومصادمة الديكتاتوريات والإلتزام بقضايا الشعب فكريا وأخلاقيا وسياسيا وهم من يمنحهم الشعب عادة حين يمارس خياراته الديمقراطية ثقته وهؤلاء هم القادة السياسيين الذين يقودون المبادرات والبرامج لصالح المجتمع ويؤثرون فيه بأقوالهم وأفعالهم .
وقسم آخر كما يصنفه إدوارد سعيد في كتابه المثقف والسلطة بقوله
“إن المثقف ليس هو حامل الشهادة فكم من حملة شهادات جهلة مقنعون . وليس المثقف من يضع معارفه لخدمة نظام ديكتاتوري مقابل أخذ الأجر المناسب ” بل هو الذي يملك ملكة المعارضة وملكة رفض الركود وهو الذي لايرضى بحالة حتى يغيرها .
ورغم أن إدوارد سعيد يرى أن المثقف الحقيقي هو الذي يرى نفسه فريدا يتمتع بمواهب خاصة ودائما مايكون مثيرا للأسئلة وهو الذي يهاجم هيمنة السلطة السائدة بكل أنماطها المادية والاجتماعية والسياسية التي تحتكر البنية الفوقية للمجتمع من خلال تحريكه للمجتمع وللراكد السياسي ، وأنه الذي يكون في صراع دائم مع الأنظمة الشمولية ويكون رهين الحبس والاعتقال كلما أعلن مواقفه المنحازة للحرية والديمقراطية إلا أن هناك من يرى غير ذلك من المثقفين النرجسيين التقليديين الذين يقبعون في أبراجهم العاجية وينزلون أحكامهم وتصنيفاتهم عل خصومهم ومنافسيهم .
وإذا انزلنا هذه المقاييس على الحالة السودانية لنعرف من هو المثقف الحقيقي العضوي المرتبط بمجتمعه ومن هو المثقف التقليدي البعيد عن واقع المجتمع وينظر إليه من برجه نجد المفارقة أن من يطلق عليهم التقليديون هم في الواقع المثقفين العضويين الحقيقيين وأن من يحتكرون لقب المثقف هم المنبتون عن واقعهم وهموم شعبهم الذي ينظرون إليه من شرفة خصوصية كتبوها على أنفسهم ما كتبها عليهم أحد .
وببساطة على رأي غرامشي أن المثقف الحقيقي هو الذي ينتج وعيه على الواقع بين الجماهير وليس على النصوص في منابر معزولة .
فما أشرت إليه بالمثقف الحقيقي هو الذي يدرك أن الأفكار التي لم يتم استخراجها من واقع المجتمع ( كالرؤى الفكرية للصادق المهدي المرتبطة بحاجات المجتمع السوداني مثالا ) تصبح مجرد هرطقة فكرية وتهويمات نظرية لا صلة لها بالواقع ( كالرؤى الفكرية المرتبطة بتجارب مجتمعية وثقافية ليست بالضرورة تنطبق على الواقع السوداني للأحزاب العقائدية ) مثالا .
فحال مثقفينا الذين يرمون غيرهم بالتقليدية والطائفية وهم التقليديون وفق التعريف الفلسفي يعتبر أبلغ مثال للانبتات عن المجتمع فلا يكفي أن تنتج وعيا معلبا في نصوص تقرأها النخبة بل المهم أن تنتج وعيا يمارس فعلا على الواقع .
إذا انزلنا هذه المقاييس على الحالة السودانية لنعرف من هو المثقف الحقيقي العضوي المرتبط بمجتمعه ومن هو المثقف التقليدي البعيد عن واقع المجتمع وينظر إليه من برجه لن نخلص إلى ما إنتهيت عليه في نهاية المقال.
خم
الغريب أن ادورد سعيد في كتابه الاخير الانسنة و النقد الديمقراطي انتقد أفكاره القديمة في كتابه الشهير الاستشراق و قال ان أفكاره في الاستشراق خدمت الاصولية الدينية أكثر من أن تخدم التنوير و في كتابه الانسنة و النقد الديمقراطي كان ادورد ذو نزعة انسانية ترفض الطاهرانية الدينية التي يتوشح بها امامك الذي وصفة منصور خالد بانه لا صادق و لا مهدي و كذلك ادورد سعيد في نزعته الانسانية في كتابه المذكور انتقد امراض النخب التي ما زالت تشتري صكوك الغفران من امثال الامام و غيرهم من اصحاب الطهرانية الدينية فادورد سعيد في كتابه الاخير مثقفه العضوي لا ينتسب الى احزاب وحل الفكر الديني فالمسألة مسألة وقت و تتحقق افكار ادورد سعيد في نزعته الانسانية التي تنفتح على قطيعة مع التراث و بالتالي مثقفه العضوي ليس ذلك العاجز و القاصر الذي لا يستطيع استخدام عقله لأنه له امام و مولانا و مرشد ان زمن المرشد و الامام و مولانا قد مضى و انقضى و اصبح امام الرياح هباء.