يأتون كالحلم و يرحلون كالفشل

المدينة كئيبة، جدرانها مغطاة بشعارات كاذبة و الجماهير غارقة في بحر العسل الذي يَشِي بأن هزائمنا المتتالية في الحياة هي مجرد نكسات أو أشبه ما تكون بالعثرات سرعان ما يُقيلها الزمن، أو كبوات لا نلبث و ننهض منها، فنحن كبار و أبناء تاريخ عريق و وجودنا برمته سليل حضارة ضاربة في القدم.
أدخل المقهى أبحث عن ” طاولة حرة ” فالحرية عندنا تشمل كل شيء حتى ذوات الألواح و الدسر.
لا توجد قاعدة خشبية غير محتلة تنفع منصةً لإطلاق صواريخ القرائح، قرائح ” تعبانة سهر، عطشانة سفر”.
أهم بالخروج فيبادرني النادل بالتريث و الصبر، و ينصحني بطول البال، لأن العجلة و الاندفاع و استعجال الحلول سياسة لا تنفع في هذا البلد، تماما كما الأدب الذي لا يجدي مع أبنائه السفلة.
أعجبني حديثه المرتب ترتيبا ينم عن ثقافة و اطلاع واسعيْن، ثم أخبرني بأنه يحضر لنيل شهادة الماجستير و لهذا فهو يعمل ليوفر مصاريف العيش و الدراسة، و دون أن أسأله عن اختصاصه بادرني بقوله : أدب سياسي.
يالله، منذ متى كانت لنا سياسة أدبية حتى نطمع في الأدب السياسي، و مع ذلك دعونا نحمد الله على هذه الهبة القومية التي تستوجب حمد الرب و شكره، فهو الواحد الأحد الذي ” لا يحمد على مكروه سواه “.
في باريس عاصمة الأنوار و الجن الأشرار و الملائكة الأطهار، كانت كنيسة نوتردام محاطة بقصور الإمبراطورية الفرنسية بكل ما فيها من خيانات و مؤامرات…في هذا الجو كتب فيكتور هيغو ” أحدب نوتردام “.
و في الواقع أنه ما من أحدب عَمَّرَ طويلا سوى الصفاقة العربية العرجاء التي لم تكن تخجل من نفسها حتى و هي تنشر غسيلها القذر خارج أسوار ” الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة “، فإلى وقت قريب كانت السوربون مسرحا لهذا الهزال العربي المقرف : السوريون يناصبون العراقيين العداء، ثم يتضامن أبناء دمشق و بغداد ضد أشقائهم من الأردن، في حين يشمخ الجزائريون بأنوفهم على الكل و يرمقون الجميع بنظرة لا تخلو من استعلاء و تكبر، و بين كل هذا الهجين يضيع الفلسطيني الذي من مصلحته أن يقف على مسافة واحدة من كل الإخوة الرفاق.
لكي نصنع السلام يجب أن نوقف الحرب، و هذه قناعة استولت في وقت من الأوقات على الكثيرين من الألمان الذين عملوا مع الحلفاء ضد المحور، لأنهم كانوا يرون أنفسهم يقومون بعمل ينسجم مع مبادئهم، و كان السلام أول هذه المبادئ، فلنسلك أيَّ طريق يسكت صوت البنادق حتى و إن كان ممرا لمشاة العدو.
وضعت الحرب أوزارها و عاش هؤلاء ” المنسجمون مع أنفسهم ” بين الناس دون أن يسمعوا كلمة تقريع واحدة، لأن النوايا تصنع القناعات التي توجه العمل، و في الأخير حسن النوايا يصنع الفارق.
عندما وصل ممثلان من الدرجة ” ب ” في هوليود إلى سدة البيت الأبيض أيقنت أن البلاد التي لا حدود للحلم فيها تنفتح على حقيقتين كبيرتين خطيرتين تقرران بأن هاته البلاد لا حدود لها و أنه بمقابل الأحلام لا حدود للكوابيس أيضا، و أن البلاد العارية من الفرص و الوعود لا مستقبل لها و يجب أن نقول لها وداعا.
الكلام المتوافر القابل للنشر يجب أن يحل محل عبارات الابتذال التي تسيء للوضع، و حتى لا يساء الفهم.
و بدلا من حديث الاستدانة الداخلية و سندات القروض، دعونا ننطلق من الحقائق التي رسمها الشعب على أوراق التعب و النصب و الإرهاق و بعث بها إلا فلاسفة الفقر و فقهاء الإفلاس، دون أن يجد فهيما واحدا يحسن فك شيفرة دافنشي.
حدَّثونا عن التقشف و عن تآكل احتياطي الصرف، و رفعوا أسعار الوقود و الكهرباء و جمدوا التوظيف على مستوى الوظيفة العمومية، و أشعلوا الطرق برداءة إنجازاتهم و أسعار نقلهم الملتهبة رغم القسيمات التي يمتصونها من دماءنا، و في الأخير طرحوا السؤال و تبرعوا بالإجابة بدلا عنا و اقترحوا القرض الاستهلاكي من باب النفقات و القرض السندي من باب الموارد، و بعد كل هذا الهرج و المرج سيكونون من الكذابين المفترين إن أثبتوا أن مواطنا واحدا خرج متظاهرا، احتجاجا على هذا المنكر و الاستفزاز، كما لن يسجلوا اسما واحدا سيتوجه إلى ” بيت مال المسلمين ” يطلب عطاءه ما دام هناك شيء اسمه رباً حتى لو كان بنسبة تقترب من الصفر.
لماذا لا تريد الطيور القابعة في بحيرة البجع، أن تقتنع بأننا شعب مسلم حتى النخاع و أن الشواذ يثبتون القاعدة و لا ينفونها، و أننا نفقه جيدا و على دراية بأن وطننا في خطر و تحدق به المصائب من كل جانب، و لهذا وضعنا أنفسنا في مستوى الرهان و آثرنا سلامة و أمن جزائرنا على جميع الحسابات الأخرى، و أنه على كعبة الثوار أن تبقى براقة في عيون جميع المتربصين بها فما من أحد يعرف حالنا في الداخل أحسن منا….إلا أحدب نوتنغام فورست.
و الأهم من كل هذا أننا صابرون على ” وجوه الهمّ “، لا من باب الخوف و الطمع، بل لأننا مؤمنون حد الوهم بأنهم جاؤوا مثل أي حلم و سيرحلون مثل أي فشل.

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..