سحرية الزمان والمكان.. في نصوص القاص عيسى الحلو

فضيلي جماع
للحديث عن فن السرد عند القاص عيسى الحلو، وهو من أبرز كُتاب القصة القصيرة في السودان اليوم، فإن القاريء بحاجة إلى فذلكة تاريخية عن السرد القصصي في السودان. بدأ السرد القصصي في ثلاثينيات القرن الماضي، وكان التكتيك بسيطاً بساطة الموضوع الذي يعالجه، حيث نرى ذلك في قصص محمد أحمد الفيل وآخرين، لكن الكتابة خرجت في بواكير الستينيات من سذاجة السرد إلى تلمس قضايا المجتمع، وكتابات عثمان علي نور، وخليل عبد الله، وأبوبكر خالد مثال لذلك.
لعل قيام منبر للسرد متمثلاً في مجلة القصة السودانية للقاص عثمان علي نور شجع أقلاماً كثيرة لتنخرط في كتابة القصة ومن الذين تلمسوا خطواتهم الأولى فيها الروائي الطيب صالح الذي بلغت شهرته الآفاق في ما بعد ونشر فيها قصته القصيرة حفنة تمر في بداية الستينيات ثم تبع ذلك جيل الطيب زروق وعثمان الحوري وعلي المك.
وبنظرة الى كتابات هؤلاء نرى أن أموراً كثيرة تغيرت من حيث التكنيك، يبدأ الطيب زروق قصته الأرض الصفراء منذ يومين فقط، كانت خطواته فيها كثير من الحيوية والنشاط لم يكن جسمه يعرق كثيراً هكذا بضع حبات فقط من العرق كانت منتشرة في أجزاء متفرقة من جسده الطويل المشدود الذي يشبه المومياء أو أن تستعير القصة أسلوباً مغايراً حين يستخدم الكاتب المونلوج الداخلي فيتحول الراوي إلى شاهد عيان إذ يسترجع الأحداث كما في قصة علي المك (كرسي القماش) لأول مرة تدرك أن هذا الشارع القديم لم تمسه يد إصلاح، ويبدو أن الأشياء لا تتغير كما ينبغي، أهذا يومك الأول أم تمضي باقي حياتك على هذا المنوال وما بقي منها هذه الحياة لقد انتهيت عند الحكومة فلفظتك إلى الشارع تحدث نفسك.
يستخدم على المك حواراً داخلياً (مونولوجاً) آخر إذ ينقل لنا حالة التعب لموظف في أول يوم يحال فيه إلى المعاش نخلص إلى أن كتابات جديدة منذ فترة الستينيات حتى بداية السبعينيات فقد استوعبت أشكالاً معاصرة لفن السرد لحق بهذا التيار في الحقبة ذاتها عيسي الحلو ونبيل غالي وجمال عبد الملك (ابن خلدون) ثم تبعتهم أقلام جديدة في السبعينيات تمكنت من تحويل مسار القصة القصيرة وصهره في قالب أكثر نضجاً وحداثة تعتبر الفترة التي نضج فيها عيسى الحلو فنياً نقطة تحول اقتصادي وسياسي من حيث سبل كسب العيش والهجرات المتواصلة من الريف إلى المدينة .
وكانت القصة الناجح هو من يلتقط القفاز ويحاول محاكاة الواقع الجديد ولعل هذا أحد أسباب نجاح واستمرارية هذا الكاتب في مجموعته الأخيرة رحلة الملاك اليومية التي تضم ثلاثين قصة قصيرة تختل في أحجامها هناك خاصة يمكن أن نطلق عليها سحرية الزمان والمكان في الخطاب السردي للقاص عيسى الحلو، فالزمان في قصصه دولاب متحرك يتأرجح في داخله الكائن الانساني بين ماض وحاضر ففي قصته (رجلا بلا ملامح) تقول الفتاة اشتد ارتباكي واضطرب الوعي وتشوش لقد أصبحت بلا ماض صفحة بيضاء لم تكتب عليها أعوامها العشرون وهكذا أفقدني الرجل الذي يقف أمامي الآن هويتي بفعل قوة زمانه المعجز الذي قسم حياتي إلى ماض باهت الصور ومنسى وإلى واقع أكاد لا أتبينه.
يبدو الوقت في سردية الحلو مثل كائن خرافي يحصر عمر وقدر الإنسان بين دفتيه يكتب في (الملكة والعرش) ويتدفق الزمان ثلاثين سنة إلى الوراء ثلاثين سنة إلى الأمام وبين الزمنين يدق زمن أكبر، دقات تتوالد الآن بين رنين الساعتين وتختلط المواعيد ومن بينهما يجيء صمت مثل جناحي طائر خرافي.
في الخطاب السردي للحلو يتمحور قدر الإنسان في حالة من الدوران المعاكس مع الزمن لا يملكن الإنسان الأفلام منها هاجس الزمن الوجودي يتكرر كثيراً في قصص عيسي الحلو حتي أنه في بعض الحالات يكون حوارا غامضاً بين الوجود والعدم .
في قصته رحلة الملاك اليومية التي تحمل عنوان هذه المجموعة نقرأ قبل طلوع الفجر بقليل ساد صمت عميق لا يشبه صمت كل تلك الليالي قبل مجيء الفجر بل هو صمت يمتليء بامكان التوقع هو مثل لحظات الانتقال من زمن إلى زمن، هذا الغموض في استخدام عنصر الزمن يتطلب مقدرة في ربط أجزاء السرد، خاصة في الحيز المحدود للقصة القصيرة، وإلا صار خصماً علي ترابط النسق السردي للنص.
نرى ذلك في بعض النصوص التي رغم تماسك خيوط العمل السردي فيها، فإن التعمية المتعمدة في لعبة الزمن تجعل الغموض وكأنه حشر في النص، نقرأ في قصة الملاك الجميل يمر من هنا وفي ذات مساء باكر جاءت للدكان امرأة في الخمسين وقالت للعجوز هو ولدي وقد غضب مني لأن والده قال إنه وجد رجلاً آخر غيره معي، ولكن أبا ولدي مغيث مريض وقد كان معي ذلك اليوم كنا نشرب الشاي معا كنت أضحكه ويضاحكني.
وفي الصباح قال منكراً إنه لم يكن هو ذاك الرجل الذي كان يجالسني وقد قال لي طبيب المستشفي الذي يعالجه أن زوجي قد أصبح رجلين لا يعرف أحدهما الآخر، هذا التلاعب بالذاكرة يجعل خاصيات القصة في مخيلة القاريء مرضى في مستشفى مجاذيب، بينما يقول النص غير ذلك لكن يظل عنصر الزمان في نصوص عيسى الحلو ركيزة مهمة في حيوية السرد وجماله.
الخاصية الثانية التي تبدو جلية في معظم نصوص هذه المجموعة هي سحرية المكان بل غموضه في معظم الأحوال، فالبيوت تقوم في مكان بعيد عن الناس والعمران ما يخلع على القصة والشخصيات مناخاً أسطورياً ممعناً في غموضه في قصته الدخان نقرأ عن كوخ يحيطه صمت المكان في البدء نمت وتكاثرت بيوت القش والطين حول ذاك الكوخ المبني من أخشاب السنط الفظة وهو كوخ منعزل يحيطه صمت المكان يسكنه شوال بورو وهو رجل على أعتاب الكهولة.
مثل هذه الصورة الغرائبية تتكرر في نصوص الحلو ربما لأنه إلى جانب سحرية الزمان وسطوته يعطي المكان مهابة ويخلع عليه شيئاً من الفانتازيا في نص بعنوان الملكة والعرش نقرأ فكان البيتالكبير ذو الأبواب المقوسة بأشجار الفكوص الداكنة الخضرة العالية يتراءى في أقصى المدينة، كما لو كان محمولاً فوق ظهر السحاب الشفاف البعيد فالبيت القائم في مكان منعزل يبدو في مخيلة القاريء وكأنه بيت جان.
هذا الغموض في المكان يكون إضافة للنص عندما يلبسه عيسى الحلو لغته الثرة وعباراته المختزلة المترعة بالشعرية.
في اعتقادنا أن الخطاب السردي للقاص عيسى الحلول في مجموعته رحلة الملاك الأخيرة قطع شوطاً بعيداً من حيث التكنيك وكثافة اللغة تقف خلف هذا النضج الفني سحرية العبارة في إسقاط عنصرين في السرد هما الزمان والمكان، بحيث يبعد النص عن نمطية الحكي ويخلع عليه شيئاً من الغرابة والغموض الجميل.
نعيب على المجموعة بعض النصوص التي تقترب في حجمها من الأقصوصة حيث اكتظت بثرثرة وإفاضة في الوصف الشيء الذي ترفضه طبيعة القصة القصيرة بما تتصف به من تكثيف للعبارة وإيجاز في الوصف
اليوم التالي