يحي فضل الله

نقوسيا

تداعيات

هذا الصباح رحل عى الدنيا ( نقوسيا ) او ( نقه ) كما يحلو لاهالي الحارة الثامنة ب( الجميعاب ) ان ينادونه ( نقه ) هذه الكلمة الصغيرة ذات الجرس الحاد مستخرجة من إسمه ( نقوسيا ) و بحرفية تبحث عن متعة في اللقب كمختصر لطيف للاسم – نقوسيا – و اللقب يوحي ايضا بحيوية نقوسيا في الجدال و الحوار وقد كان لنقوسيا مجلس انس وشلة اصحاب يحكي لهم حكاياته تلك الحقيقية وتلك الخيالية وقد كان نقوسيا فعلا يحب النقه ، علي كل هاهو نقوسيا يحمل خطواته الي حيث لا نهاية دون ان يودع احد في هذا الصباح الرمضاني الكسول ، صباح الثلاثاء الثاني من مارس من العام1993م.

( نقه ) هو الابن البكر ل(الماظ ) الحبشية ، المرأة النحيلة التي لم تستطع الشمس ان تؤثر في لون بشرتها اللامع الخلاسي ، يبدو ان الشمس حاولت لكنها فشلت ، كانت الماظ الحبشية – لايمكن ابدا لاي ذاكرة ايا كانت في حي الجميعاب لها قدرة ان تنطق إسمها بدون ان تلحقه بتلك الصفة – الحبشية – ، كانت تجوب دروب الجميعاب و تعمل في البيوت و حين تألف البيت و يألفها توثق هذا التألف موزعة حميميتها في فناجين قهوتها التي تكون قد تسربت عبر تلك الطقوس التي تتباهي بها القهوة الحبشية ، الماظ تعمل في البيوت و تتماسك اسرتها الصغيرة بفضل هذا الجهد و هذا الكد وتلك الروح الصبورة.
ظلت الماظ الحبشية تعمل في البيوت إلا ان رجع نقوسيا من مهجر بعيد و متناثر بعض الشئ ، قبل ذلك كنت مرار ما اسمعها تحكي عن نقوسيا وهو في ايطاليا و مرة سمعتها تقول إنه في اثينا ، نقوسيا عاد الي اسرته بافكار كثيرة إستقرت كلها في مصنع صغير في البيت للاحذية النسائية و يبدو انه جلب معه ادوات مصنعه معه من ايطاليا و كانت ان تجولت تلك الجزم والشباشب النسائية الملونة علي دروب الجميعاب ، بل ان اصابع نقوسيا الماهرة وضعت رعشاتها علي الجزم و الشباشب التي توزعتها المشاوير في دروب و شوارع امبده مدني و السبيل و واقعت السوق الشعبي امدرمان وتحملت انتظارات الصبايا الطالبات للحافلات في مواصلات البوستة ادرمان وذهبت مع الخطوات النسائية العاملة في مصالح الخرطوم الحكومية وتسكعت مع المتسكعات في سوق ام دفسو بالحارة خمستاشر ، بل ان بعض حسان و صبايا امدرمان القديمة تجملت اقدامهن المتوثبات نحو الحياة بجزم – القطع – و الشبابش – القطع – ايضا و التي اظهرت تجليات اصابع نقوسيا الجميلة علي الجلد و البلاستيك و قد جئن من امدرمان الي مصنع نقوسيا في بيته الكائن جنوب محطة خمسة في شارع الجميعاب لان هنالك جزمة قطع قد تباهت بدخولها عبر ابواب بيوت ادرمان القديمة .

نقوسيا إنتشرت و تسربت بضاعته و اشتعل ذلك المصنع البيتي الصغير بالعمل ، حينها توقفت الماظ الحبشية عن العمل في البيوت لان نقوسيا قرر مستندا علي ما يكسبه من نقود ، قرر ان ترتاح والدته ولها الان ان تستلقي مرتاحة و تسرح وراء ذكرياتها تلك الموغلة في الغربة و الهجرات ، توقفت الماظ الحبشية عن العمل في البيوت و لكنها نشطت في الاحتفاظ بعلاقات العمل القديمة فكانت تتجول بادوات القهوة علي تلك البيوت التي احبت اهلها و احبوها .

في ذلك الصباح الذي يحاول ان يودع برودة يناير و ذلك المزيج بين البرودة و الدفء في فبراير ليأتي اليوم الثاني من مارس متحالفا مع سخونة تجعل من العطش عاملا محرضا علي الإفطار في نهار رمضان ، ذهب نقوسيا الي ذلك البعيد دون اي عودة محتملة كما كانت دائما تنتهي غياباته تلك الكثيرة و المتكررة ، تناول نقوسيا وجبة السحور ، نقوسيا كان مسلما بينما كل الاسرة من المسيحيين ، لا احد يدري كيف تسني لنقوسيا ان يكون مسلما و لكن برغم ذلك كان نسيج الحكايات في الجميعاب يحتفظ بمغامرات نقوسيا مع تلك الخيمة المنصوبة في اخر محطة القديمة لحافلات الجميعاب – خيمة العساكر – مغامراته مع الدوريات الرسمية وغير الرسمية ودوريات تدعي النهي عن المنكر و لاعلاقة لها بالمعروف ، مغامراته مع عسس تتنوع بطاقاتهم الحقيقية و المزيفة في وجوه اولئك المنفلتين و الذين تقودهم خطواتهم المترنحة عبر تلك الدروب المظلمة ، كان نقوسيا عادة لا يقترب و لا يقرب الخمر في شهر رمضان كعادة السودانيين حين يخلطون بين النقائض بمتعة جمالية ، تناول نقوسيا سحوره و نام ولم يستيقظ بعد ذلك ابدا ، هكذا بكل بساطة ودون ان يعرف لذلك سبب له من الامراض علائق فكان صباح رمضانيا ساخنا محتشدا بعويل نساء الحارة الثامنة بالجميعاب وهن يركضن ثاكلات سافرات من هول الفجيعة نحو بيت الماظ الحبشية.

احد اقارب نقوسيا اصر ان يدفن في مقابر المسيحيين احد اقاربه من المسلمين اصر ان يدفن نقوسيا في مقابر المسلمين و احتدم الجدال حول هذا الامر و تعالت الاصوات لتختلط باصوات عويل النساء وصرخات الماظ الحبشية المتشنجة حد الهستريا وكانت تركض في كل إتجاه ، اشتد الصراع حول قبر نقوسيا فتدخل احد ائمة الجوامع و اصطادت اللجنة الشعبية في الحي هذا الصراع فكان لابد من ظهور الشرطة .

الصراع حول تلك التربة التي سيختفي فيها نقوسيا و الي الابد ، هذا الصراع لم يكن يلامس ولو من بعيد فجيعة الماظ الحبشية ، بل انها كانت تنظر الي افراد الشرطة و اناس اخرين لا تعرفهم يتجولون وبعصبية داخل البيت ولم يكن بمقدورها ان تفهم الامر و لم يكن في إ ستطاعتها غير ذلك البكاء الذي تركض به داخل البيت ، تدخل غرفة نقوسيا و تخرج الي الحوش وتعود الي غرفة نقوسيا مرة اخري لتخرج منها وتركض في كل إتجاه و يهتز جسدها بفعل ذلك النحيب .
بينما كان ذلك النزاع بين الطرفين حول الهوية الدينية لقبر نقوسيا ، بينما كان هذا النزاع محتدما الي درجة نسيان ذلك الميت الاستثنائي ، بينما كان هذا الصراع يختلط بعويل النساء و بكاء ونحيب الماظ الحبشية كان نقوسيا مغطي بثوب امه المزركش الالوان وكانت علي القالب فردة جزمة سوداء غابت عنها اصابع نقوسيا فجأءة هذا الصباح
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. قرأت قبل يومين عدد كبير من تعليقات سودانيين في بعض المواقع الإسفيرية حول هجرة الأحباش إلي السودان. وقد تناولها أغلبهم بكثير من السماجة والسطحية .. إلا أن تداعياتك الأدبية والإنسانية هذه غسلت عن نفسي ما علق بها من شوائب. لك التجلة والتقدير مبدعنا الكبير يحي فضل الله.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..