المقالات والآراءيحي فضل الله

مضاد حيوي

اخرج من حي البوستة – امدرمان – عصرا ، اقفز سور ميدان الخليفة ، علي يميني عادة ما المح ذلك النصب التذكاري الذي كان مرصعا بالسراميك المصقول واللامع وقد تقبح في موجة ماسمي بإزالة أثار مايو في فترة الديمقراطية الثالثة وظل هكذا مخربشا من اثر المعاول وبدلا من تلك اللمعة المصقولة اصبح خشنا من اثر محاولات تحطيمه التي يبدو انها فشلت ، عادة ما تلحظ عيوني هذا العامود المنتصب والذي كان يسمي ب (صرح الابطال) ، اي ابطال ؟؟؟
دائما ما يجادل ذهني هذا السؤال ، هذه المنطقة المسورة – ميدان الخليفة – دائما ما اعبرها قافزا اسوارها مرتين لامر بقبة المهدي و متحف الخليفة عبدالله حيث اصل مباني الفنون الشعبية و التي هي الان مكاتب امانة المسرح ، اي ابطال ؟ ، لا اهتم بإجابة هذا السؤال ، اترك التفكير فيه لاستمتع بنوع من تلك الثرثرة المعلنة ، هنا تتيح لي هذه المساحة الخالية من المارة ، تتيح لي فرصة ان احادثني و احدثني و اتحدث وحدي و بصوت عال ، وحدي اتحدث ، اجادل همومي و افكر بصوت مسموع ، خطواتي تتمهل حين اصل السور المقابل للقبة كي استعد للقفز مرة اخري .
في هذا العصر كنت مهموما بمرض إبنتي ( داليا ) التي تعاني من ( قحه ) تتطور الي غثيان و تنتهي بإستفراغ وقد فشلت هذا الصباح في الحصول علي مبلغ من المال يغطي ثمن المضاد الحيوي وهاهو شهر ابريل في الاسبوع الاخير منه ، يعني اربعاء و عقاب شهر ، الاربعاء 21- 4 -1994م تحديدا ، اصل الي مكتبي بالفنون الشعبية الذي تركت عليه اوراقي مبعثرة إذ كنت اكتب مقالا عن الكاتب الدرامي المتميز صلاح حسن احمد وهانذا اعود كي ابيض المقال إ ستعدادا لتسليمه غدا للاخ الصديق الصحفي صلاح شعيب كي ينشره في الجريدة الرياضية ، اجلس علي المكتب و ادخل عمليا في مشروع تبيض المقال بذهن مشتت نوعا ما محاولا إعادة تركيزي كي اكثف بعض المحاور في المقال ، استغرق تماما في ذلك حتي بدايات الغروب ، اخرج من المكتب ، خطواتي تواقع شارع الإ ذاعة حتي اصل المسرح القومي ، انحرف من امام المسرح بعد ان شربت كوب ماء من احدي الازيار الثلاثة تحت شجرة اللبخ امام المدخل الرئيسي، لم يكن علي تاجر العامل بالمسرح القومي و بائع التسالي موجودا و واقفا خلف طبق التسالي كما دائما ويستقبل جمهور العروض المسرحية وكذلك العم عبد السلام المعروف ب ( ابو سلوي )- خفير المسرح – لم يكن موجودا ، المسرح القومي نفسه لم يكن موجودا في فعاليته ، كان موجودا فقط في مواته لان الدولة قد رفعت يدها عن تمويل المواسم المسرحية وفق نظرية ذات خبث ايدلوجي تقول إن الدولة لا تنتج ثقافة ، انحرف من امام المسرح القومي وانزل منحدرا الي الشاطئ حيث اول موجات النيل ، اتحرك ماشيا عكس التيار ، اعود الي هذياني المسموع و حين اقترب من اي شخص جالس او متحرك علي الشاطئ اخفي حديثي و بحرفة عالية في الدواخل ، عادة ما تتعلقي نظراتي هناك في الجانب الاخر من الشاطئ حيث جزيرة توتي ، اسمع من هنا اصوات تتجاذب الحديث و احيانا الصيحات كل ذلك مختلطا باصوات الطرمبات – المتر – ، تزحم انفي رائحة السمك حين اقترب من نقطة بوليس الموردة ، سوق السمك ، أتامل قشور السمك المتناثرة في المكان ، الدكك الدائرية الخشبية التي تقطع فيها الاسماك بعد ان يتم قشط قشورها مبعثرة هنا وهناك و بفوضي لها حس من النظام ، تختفي من خياشيمي تلك الرائحة السمكية الزنخة حين اتجاوز المكان ، هجعت العصافير بزقزقتها القلقة علي اشجار حديقة الجندول سابقا ، هي الان قاعة الزهراء التابعة لكلية القرأن الكريم ، العصافير وحدها التي لا تحس بهذا التحول فلا زالت تهجع علي اشجار تلك الحديقة ، امر من خلف جامع النيلين و انحرف يمينا كي اصل شارع الموردة علي يميني قصر الشباب و الاطفال ، اتجاوز البرلمان او مجلس الشعب او المجلس الوطني ، لا يهم ، ادخل راجلا كوبري النيل الابيض ، امشي عكس حركة العربات ومن خلال صدئ إيقاعي لصوت إصطدام إطارات السيارات بفواصل الكوبري الحديدية اقذف بنظراتي بقداسة كل الحواس نحو الاسفل حيث اتحسس البؤرة المائية الاسطورية التي يلتقي فيها النيلان ، اترك الكوبري خلفي و أبدأ في مراجعة ذاكرتي و انا أقرأ في دواخلي و احيانا بصوت مسموع القصائد التي سوف القيها في الليلة الشعرية التي يقيمها طلاب كلية الفنون الجميلة من ضمن النشاط الموازي لمعارض التخرج هذا العام ، اعبر الشارع كي امر بفندق هيلتون ، هنا احس بان العالم متلاصف اكثر من اللازم ، حتي تلك الخضرة امام باب الفندق الدائري الحركة احس بها تعلن عن جفوة إنتماء حريفة، اعود الي تمارين ذاكرتي مع الشعر متفاديا النظر الي تلك الطائرة المعلقة في تقاطع شارع الهيلتون والشارع المنحرف يسارا نحو شارع النيل وحين اقترب من حيث كان يوجد إتحاد الكتاب السودانيين بالمقرن خلف قاعة الصداقة اتخلي عن مراجعة شعري في الذاكرة تلك التي كان لابد لها من ان ترتبك و عيوني تجادل و بحنين خاص هذا المكان وقبل ان انحرف يمينا أقرأ علي ناصية هذا المكان الاليف لافتة مكتوب عليها ( مركز الشهيد ابي دجانة التجاري ) وعلي يميني تستفزني تلك اللافتة علي مدخل المكان (الاتحاد العام للطلاب السودانيين ) ، اتخلي عن حسرة بها الكثيف من الغبن و اواصل مشواري حتي مباني كلية الفنون مهيئا ذاكرتي لتلك الليلة الشعرية مبرمجا قراءاتي .
إنتهت الليلة الشعرية وكان علي ان اعود الي منزلي بالجميعاب ، كان الشاعر الصادق الرضي و الشاعر عاطف خيري مهيأين للمبيت بداخلية الطلاب ، كان قد تغيب عن هذه الليلة الشاعر المتميز استاذنا هاشم صديق ، حين كنت اثرثر مع الشاعرة الصديقة و الفنانة التشكيلية نجاة عثمان حول اللون في قصائدها جاء احد الطلاب ورافقنا خارج الكلية وكان مسئولا عن توصيلي الي الجميعاب و قد كان ان اوقف عربة تاكسي و اتفق مع السائق علي توصيلي بمبلغ 800 جنيه وكان قبلها قد طالب بمبلغ الف حنيه تناقصت بعد حوار فيه نوع من اللزوجة و كنت اقف بعيدا عن هذا الحوار .
جلست علي المقعد الامامي و بعيون تجادل ترتيب النوايا كنت اتفرس في ملامح ذلك السائق و قبل ان يصل بي التاكسي حيث ذلك التقاطع المقبح بتلك الطائرة المعلقة قررت ان اشهر نواياي خاصة وان ثمن المضاد الحيوي الذي يجب ان اوفره لابنتي ( داليا) -خمسمية جنيه – قد حرضني علي ذلك و قدمت إقتراحي بصوت فيه نبرة من تلك الجدية التي تحاول و بقدر الإمكان ان تخفي اي مظاهر إستجداء
:- (( لو سمحت ، ممكن أنزل هنا ))
:- (( ليه ؟ ، ليه في شنو ؟ ))
:- (( انا عندي تصور تاني ))
:- (( زي شنو يعني ؟ ))
:- (( انا انزل منك هنا و تأخد انت تلتمية جنيه وترجع لي الباقي ))
وهنا قذف ذلك السائق في وجهي بنظرة حادة و جادة و حرك عربته بطريقة تمتص رفضه لاقتراحي ذلك الحسن النوايا وقال لي بنبرة ذات صرخة حاسمة :- (( لا ، الجميعاب )) و اشهر نحوي عيون متسعة وداس علي البنزين ونهرني بعنف مقصود : -(( الجميعاب طوالي )) .
وضحكت مني الدواخل وتذكرت كيف ان هذا المشوار من حيث كان يوجد إتحاد الكتاب السودانيين الي شارع الجميعاب ، كيف ان هذا المشوار كنا نمشيه راجلين و معي الشاعر الصديق الصادق الرضي متأففين و بمزاج من فكرة الاوتوستوب منحازين الي أنس حميم حد اللجوء الي الاغنيات و متناثرين في متعة الخطي وهي تواقع شوارع الذات المتسعة و الفسيحة

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..