ليلة إحياء ذكرى علي عبد القيوم

ليلة إحياء ذكرى علي عبد القيوم
أقامت لجنة إحياء ذكرى المبدع الراحل الشاعر علي عبد القيوم بالتعاون مع اتحاد الكتاب السودانيين ليلة بدار الاتحاد يوم السبت الرابع عشر من أكتوبر حيث اشتملت على العديد من الفقرات. وفي البدء كانت الكلمات حيث تحدث الشاعر الياس فتح الرحمن نيابة عن اللجنة المنظمة وتحدث د. صديق امبدة نيابة عن أتحاد الكتاب السودانيين، ثم أعقب ذلك مقطوعات موسيقية من فرقة د. كمال يوسف مستوحاة من أشعار الراحل، وتم عرض الفيلم الوثائقي عن الشاعر الراحل وهو من إخراج الطيب مهدي وأشراف سليمان محمد إبراهيم ثم قدم الشاعر السر عثمان الطيب والشاعرة إيمان آدم قراءات من أشعار الراحل وبعدها فاصل من العزف على آلة الطمبور، ثم قدم آخرون إفاداتهم عن الراحل ومن بينهم المسرحي عبد الجبار عبد الله الذي كان الشاعر الراحل مشرفا على بحثه العلمي ثم قدم الشاعر كامل عبد الماجد وهو رئيس اللجنة المنظمة لليلة إفادته وهو من زملاء الشاعر الراحل بالجامعة. لقد ضاقت الدار على سعتها بالحاضرين فاضطر بعضهم للمتابعة من سطوح الدار. وكانت اللجنة قد عرضت ثلاث كتب طبعت بواسطتها فحرص البعض على اقتنائها وهي (ديوان الخيل والحواجز للشاعر الراحل) و(كتاب عن آثار المبدع الراحل .. روايتان وتمثيلية إذاعية) و(كتاب اشتمل على شهادات ومقالات أدباء وكتاب عن الشاعر) وقبل انتهاء البرنامج الذي كان ختامه موسيقيا، تجول الحضور في المعرض الخاص بصور الراحل المتنوعة.
وبما أن شهادتي عن الشاعر كانت ضمن الكتاب المنشور، وهي التي سبق أن نشرت بعد وفاة الشاعر بجريدة الخرطوم ونشرت ضمن كتابي (نبض الخاطر) كما نشرت ضمن كتاب (من تُرى أنطق الحجر) الذي أصدره أصدقاء الراحل بدولة قطر أيضا، فإنني أود أن أذيل بها هذا العرض الموجز:
(صاحب الخيل والحواجز)
غيّب الموت قبل أسبوع شاعرنا الفذ علي عبد القيوم صاحب ديوان (الخيل والحواجز) عن ساحة الفعل والعطاء، فله شآبيب الرحمة ولآله وصحبه حسن العزاء. وكنت ربما قبل يوم من وفاته قد قرأت له قصيدة نشرت بجريدة الخرطوم بعنوان (من ترى أنطق الحجر) حيث أطلت علينا صورته وهو مستغرق في دوامة من التفكير العميق. ورغم أن مناشدة الشاعر محجوب شريف له بالنهوض – في ترحيبه بالقصيدة والشاعر- توحي بأنه كان يمر بمرحلة حرجة في صراعه مع المرض، إلا أنني لم أشك مطلقاً في أن استغراقه كان مكرسّا على ما آل إليه حالنا من شتات سرمدي وحاضر ضبابي ومستقبل مظلم. وقد تعجبت إذ كيف أن ذلك الاستغراق الحائر يرتسم على وجه من قال أروع مفتتح انتقاه الفنان وردي لأحد أناشيده الخالدة :
أي المشارق لم نغازل شمسها
ونميط عن زيف الغموض خمارها !
أي المشانق لم نزلزل بالثبات وقارها !
أي الأناشيد السماويات
لم نشدد لأعراس الجديد بشاشة أوتارها ؟
فلابد إذن أن المصيبة أكبر ومآلنا يفضي إلي شفا حفرة من نار. وقبل أن أفك طلاسم الغموض الذي اكتنف تلك الحيرة، إذا بي أفاجأ بقراءة خبر نعيه الأليم، فينشطر أمامي كون من الصفاء وطيب الإخاء وحسن المعشر، وتدور بي عجلة الزمن إلي الوراء ليقف مؤشرها عند أواخر الستينات حين كان العطاء الفكري والثقافي ثراً بمعني الكلمة وكانت مناخات الإخاء وتلاقح الأفكار حبلى بالبشارة، وضروب الأدب والفن ترتع في مروج التجديد والتجريب وتجمع بين صفوة من المبدعين والكتاب تحت تعريشة وارفة الظلال عرفت باسم تجمع الكتاب والفنانين التقدميين أو (أبادماك) الذي كان الشاعر المرحوم من مؤسسيه. ولما كان هدف ذلك التجمع الوصول بعطاءاته إلي المتلقي في عقر داره، فقد طاف أعضاؤه بعض قرى الجزيرة الخضراء في أغسطس من العام 1969 وكان بينهم الأساتذة عبدالله على إبراهيم وعبد الله جلاب وعبد الله شابو ويوسف خليل وعثمان خالد وعمر الحويج وطه العطا وعلى وراق والفاتح سعد وصديق ضرار وعبد الهادي الصديق وخالد المبارك وطلحة الشفيع ونصر الدين سناده وصلاح حاج سعيد وعلي عبد القيوم وحدربي محمد سعد وآخرين لا يتسع المجال لذكرهم. وأذكر أن كان عامل الوقت يقتضي إقامة عدة ندوات ثقافية وشعرية وعروضاً فنية وتشكيلية ومسرحية وغنائية في أكثر من موقع واحد وفي ذات الوقت بمدينة واد مدني. فكنت ضمن مجموعة الشاعر علي عبد القيوم ليتوجّب علينا الإسهام في ثلاثة مواقع شعراً وتنويراً عن التجمع وأهدافه. فإذا كنا نحن ضمن جماعة نادي الشعر مثلاً، يحل محلنا جماعة نادي القصة ويتحركون إلي موقع آخر مثلنا ليحل محلهم جماعة المسرح ومن ثم جماعة الفنون التشكيلية ثم جماعة الغناء إلي آخر الفعاليات المشاركة. وأذكر أنه في حي السكة حديد حيث كان الحضور مكثفاً، كانت الأستاذة نفيسة محمد الأمين التي صارت فيما بعد وزيرة على أيام مايو، تلح علينا لإلقاء المزيد من القصائد حتى كدنا أن نحدث خللاً في البرنامج الموضوع. ولعل كل ذلك لأن شاعرنا علي عبد القيوم بهدوئه المعهود ورقته المعروفة وإلقائه المفعم بالذوبان والإيحائية وتوظيف الأصابع واليدين ورحابة صدره الواسعة، لم يشأ أن يضنّ على المستمعين في تلك الأمسية، فقدم مختارات منتقاة من أشعاره بينها قصيدة جرداق للمطر التي يقول فيها :
في هذه الظهيرة الندية العيون
لابد أن أقول شعراً للمطر.
لما دعت لنا عجوزة من أرض فور حافية
جاءت لتحتمي بنا من جلدة السحاب
بأن ننام ? بعد دفقة السماء ? عافية،
خرجت للطريق.
يا طيبون، مهرجانكم
والأرض لم تزل غريقة بالماء
والخور يستطيل عزة وكبرياء
بهرجني
كما عيونكم تطرزت
بالعشب والدليب والذرة
وبعد أن أشاحت السلطة السياسية وجهها عن الشيوعيين والديمقراطيين الذين عضدوا مقدمها في البدء تم تجميد نشاط تجمع أبادماك وترتب على ذلك تصنيفه ضمن شرائح المناوئين. فباعدت الظروف بين بعض أعضائه، غير أن الحماس لم يفتر وبدأ الناس يتحسسون مختلف المواقع لمواصلة المسيرة. فكان أن قام الشاعر بإخراج مسرحية حفلة سمر من أجل 5 حزيران التي كتبها سعد الله ونوس، لتجيء إضافة ناضجة إلي عطاء المسرح المزدهر في أوائل السبعينات وخطوة في سبيل تعزيز خروج المسرح الجامعي من نطاقه الضيق للانفتاح على الجمهور من خلال المسرح القومي. ولعل أول من كسر هذا الحاجز كان الأستاذ عثمان جعفر النصيري بمسرحية مأساة الحلاج. بعدها تفرق شمل الكثيرين ولم أسعد برؤيته إلا مرات تحسب في أصابع اليدين بمنزله بحي البوسته أو في بعض المحافل الأدبية إلي أن انقطعت الصلة لعشرات السنين لتجيء أخباره متقطعة بين الفينة والأخرى. ولكن رغم ذلك ظل صدى أشعاره يتردد في نخاع الذاكرة الخربة إلي أن دفع إلينا مؤخراً بديوانه كمن يريد أن ينعش في دواخلنا تلك الأيام الخوالد. فلم لا نذكره وفي شعره خصوصية التجربة وفرادة القاموس وثورية الرأي فضلا عن القدرة على الغوص العميق والتخيل الفضفاض.
يا أيها الشيء الذي
خبأه اللسان عن تطفل العيون
يا أيها الذي
يكون لحظ? .. أو لا يكون
ماذا أقول والسماء مزنها وشى
والنصل صال فاضحا مجاهل الحشا
ترى أشيل طفلي المجروح نحو السوق
كي يلطخوا جبهته البيضاء بالخطيئة
أم أفتدي سفاحه بدمعة بريئة
أم انتحي به مفازة الغروب، ثم لا أعود
معذرة يا صديق الجميع .. ويا فارس الكلمة .. ويا من يستعصي علينا نعيه. لقد شردت مني الكلمات وارتجفت أوصال الخاطر، فوجدت نفسي تحت وطأة اللوعة عاجزاً عن أن أوفيك حقك، فدعني أقلب بعض أوراقك القديمة الجديدة :
1) كان لقاؤنا تحت مظلة من النجوم الباهتة
ما بين أشجار عقيمة طالحة مقوسة
حيث تجهم الفضاء (أثر ضحكة لم تكتمل)
وانهار فوق ساقه زماننا المغفل الثمل
فانكسرت، ولم تعد صالحة لحرفة
سوى التسول الذليل والنفاق
وحينما كاشفه أبناؤه اليتامى
بخزيهم في كبريائه وفي وعوده القديمة
انهار فوق ساقه السليمة
(فاكتملت معالم الجريمة)
2) غيمة أنت ؟
لا
ولست أنا شاعرا
يطمس الواقع بالمفردات النبيلة
ربما تحت وهج الظهيرة، ظللتني رؤاك
ولكن ..
لم تكوني غمامة
كنت أنثى ظليلة
3) أيها الطارق باب الدار ليلا
جئت بالفجر وبالأمطار تهمي والبذار
فسلاما لك في دارك أعياها البوار
وسلاما لك أبنا وأبا
وسلاما لك سعيا دائبا
وسلاما لك تهدي للوطن
بارق الوعد وسيف الانتصار
وسلاما لك ترتقي بالوطن
من مدار .. لمدار .. لمدار
لك الرحمة بقدر ما أعطيت لهذا البلد من حناياك ذلك النسيج الكلامي السلس. ولك الرحمة بقدر ما حملت في جوانحك من درر تنفستها شعراً فأضفيت عليه رقة وشفافية. ولك الرحمة لكونك لم تبخل عليه بماء عيونك ودم قلبك المفتوح للجميع بالبشاشة والترحاب. ولك الرحمة يا صاحب الخيول التي تجاوزت الحواجز فحفرت بسنابكها اسمك في ذواكر الجميع.
صلاح يوسف
[email][email protected][/email] جريدة الخرطوم 7/10/1998